ويوم صار أمس، وحسرة بقيت فى النفس، وثغر غاض ماؤه فلا يرشف، وريق خدع فلا ينشف، وتمايل لا يعجب، وتثنّ لا يطرب، [ووجه زال بهاؤه] ، ومقلة لا تجرح ألحاظها، وشفة لا تفتن ألفاظها، فحتّام تدلّ، وإلام نحتمل وعلام؟ وآن أن تذعن الآن، وقد بلغنى ما أنت متعاطيه من تمويه يجوز بعد العشاء فى الغسق، وتشبيه يفتضح عند ذوى البصر والصدق؛ من إفنائك لتلك الشعرات جفّا وحصّا، وإنحائك عليها نقصا وقصّا. وسيكفينا الدهر مؤونة الإنكار عليك، بما يزف من بنات الشعر وأمهاته إليك؛ فأما ما استأذنت فيه رأيى من الاختلاف إلى مجلسى فما أقلّ إليك نشاطى، وأضيق عنك بساطى، وأشنع قلقى منك، وأشد استغنائى عن حضورك، فإن حضرت فأنت داء نروض عليه الحلم، ونتعلم به الصبر، ونتكلف فيه الاحتمال، ونفضى منه الجفن على قذى، ونطوى منه الصدر على أذى، ونجعله للقلوب تأنيبا، وللعيون تأديبا.
ومالك إلا أن تعتاض من الرغبة عنّا رغبة فينا. ومن ذلك التدلّل علينا تذللا لنا، ومن ذلك التعالى تبصبصا، ومن ذلك التغالى ترخّصا، وما بال الدهر أعقبك من التزايد تنقصا «١» ، ومن التسحّب على الإخون تقمّصا، ولئن اعتضت من الذهاب رجوعا، لقد اعتضنا من النزاع نزوعا «٢» ، فانأ برحلك وجانبك، ملقى حبلك على غاربك، لا أوثر قربك، ولا أنده سربك، والسلام.
ومن إنشاء بديع الزمان فى مقامات الإسكندرى ولعلّ ما فيها من الطول غير مملول. قال: حدثنا عيسى بن هشام قال: كان يبلغنى من مقامات الإسكندرى ما يصغى له النّفور، وينتفض له العصفور، ويروى لى من شعره ما يمتزج بأجزاء الهواء رقّة، ويغمض عن أوهام الكهنة دقة، وأنا أسأل الله بقاءه،