فَإِنَّهُمَا فِي الْعُرْفِ لَا يَحْتَاجَانِ أَنْ يُعَاقِدَاهُ عَلَى الْأَوَّلِ، بِثَمَنٍ يُمَيِّزَهُ، ثُمَّ يَبْتَاعَا بِهِ، وَإِنَّمَا يُقَوِّمَانِ السِّلْعَتَيْنِ لِيَعْرِفَا مِقْدَارَهُمَا، وَلَوْ قَالَ لَهُ بِعْتهَا بِكَذَا وَكَذَا. أَوْ ابْتَعْت مَثَلًا هَذِهِ بِهَذَا الثَّمَنِ لَعُدَّ هَذَا لَاعِبًا عَابِثًا قَائِلًا مَا لَا حَقِيقَةَ لَهُ وَلَا فَائِدَةَ فِيهِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ كَانَ الشِّرَاءُ مِنْ غَيْرِهِ فَإِنَّهُ يَبِيعُهُ بِثَمَنٍ يَمْلِكُهُ حَقِيقَةً، ثُمَّ يَبْتَاعُ بِهِ مِنْ الْآخَرِ فَكَذَلِكَ إذَا أَرَادَ أَنْ يَبْتَاعَ مِنْهُ بِالثَّمَنِ مِنْ جِنْسِهَا كَيْفَ يَأْمُرُهُ الشَّارِعُ بِشَيْءٍ لَيْسَ فِيهِ فَائِدَةٌ؟
وَمِنْهَا أَنَّهُ لَوْ كَانَ هَذَا مَشْرُوعًا لَمْ يَكُنْ فِي تَحْرِيمِ الرِّبَا حِكْمَةٌ إلَّا تَضْيِيعُ الزَّمَانِ، وَإِتْعَابُ النَّفْسِ بِلَا فَائِدَةٍ. فَإِنَّهُ لَا يَشَاءُ أَنْ يَبْتَاعَ رِبَوِيًّا بِأَكْثَرَ مِنْهُ مِنْ جِنْسِهِ إلَّا قَالَ بِعْتُك هَذَا بِكَذَا وَابْتَعْت مِنْك هَذَا بِهَذَا الثَّمَنِ. فَلَا يَعْجِزُ أَحَدٌ عَنْ اسْتِحْلَالِ رِبًا حَرَّمَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ قَطُّ، فَإِنَّ الرِّبَا فِي الْبَيْعِ نَوْعَانِ: رِبَا الْفَضْلِ.
وَرِبَا النَّسِيئَةِ، فَأَمَّا رِبَا الْفَضْلِ فَيُمْكِنُهُ فِي كُلِّ مَالٍ رِبَوِيٍّ أَنْ يَقُولَ بِعْتُك هَذَا الْمَالَ بِكَذَا وَيُسَمِّيَ مَا شَاءَ، ثُمَّ يَقُولَ ابْتَعْت هَذَا الْمَالَ الَّذِي هُوَ مِنْ جِنْسِهِ، وَأَمَّا رِبَا النَّسِيئَةِ فَيُمْكِنُهُ أَنْ يَقُولَ بِعْتُك هَذِهِ الْحَرِيرَةَ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ، أَوْ عِشْرِينَ صَاعًا إلَى سَنَةٍ وَابْتَعْتهَا مِنْك بِتِسْعِمِائَةٍ حَالَّةٍ، أَوْ خَمْسَةَ عَشَرَ صَاعًا، أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ. وَيُمْكِنُهُ رِبَا الْقَرْضِ فَلَا يَشَاءُ مُرْبٍ إلَّا أَقْرَضَهُ، ثُمَّ حَابَاهُ فِي بَيْعٍ أَوْ إجَارَةٍ، أَوْ مُسَاقَاةٍ، أَوْ أَهْدَى لَهُ، أَوْ نَفَعَهُ، وَيَحْصُلُ مَقْصُودُهُمَا مِنْ الزِّيَادَةِ فِي الْقَرْضِ، فَيَا سُبْحَانَ اللَّهِ الْعَظِيمِ أَيَعُودُ الرِّبَا الَّذِي قَدْ عَظَّمَ اللَّهُ شَأْنَهُ فِي الْقُرْآنِ وَأَوْجَبَ مُحَارَبَةَ مُسْتَحِلِّهِ، وَلَعَنَ أَهْلَ الْكِتَابِ بِأَخْذِهِ، وَلَعَنَ آكِلَهُ وَمُوكِلَهُ وَشَاهِدَيْهِ وَكَاتِبَهُ، وَجَاءَ فِيهِ مِنْ الْوَعِيدِ مَا لَمْ يَجِئْ فِي غَيْرِهِ إلَى أَنْ يُسْتَحَلَّ جَمِيعُهُ بِأَدْنَى سَعْيٍ مِنْ غَيْرِ كُلْفَةٍ أَصْلًا إلَّا بِصُورَةِ عَقْدٍ هِيَ عَبَثٌ وَلَعِبٌ يَضْحَكُ مِنْهَا وَيَسْتَهْزِئُ بِهَا؟ أَمْ يَسْتَحْسِنُ مُؤْمِنٌ أَنْ يَنْسُبَ نَبِيًّا مِنْ الْأَنْبِيَاءِ فَضْلًا عَنْ سَيِّدِ الْمُرْسَلِينَ. بَلْ أَنْ يَنْسُبَ رَبَّ الْعَالَمِينَ إلَى أَنْ يُحَرِّمَ هَذِهِ الْمَحَارِمَ الْعَظِيمَةَ، ثُمَّ يُبِيحَهَا بِضَرْبٍ مِنْ الْعَبَثِ وَالْهَزْلِ الَّذِي لَمْ يُقْصَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ حَقِيقَةٌ وَلَيْسَ فِيهِ مَقْصُودُ الْمُتَعَاقِدَيْنِ قَطُّ.
وَلَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّ بَعْضَ الْمُرْبِينَ مِنْ الصَّيَارِفِ قَدْ جَعَلَ عِنْدَهُ خَرَزَةَ ذَهَبٍ فَكُلُّ مَنْ جَاءَ يُرِيدُ أَنْ يَبِيعَهُ فِضَّةً بِأَقَلَّ مِنْهَا لِكَوْنِهَا مَكْسُورَةً، أَوْ مِنْ نَقْدٍ غَيْرِ نَافِقٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ قَالَ لَهُ الصَّيْرَفِيُّ: بِعْنِي هَذِهِ الْفِضَّةَ بِهَذِهِ الْخَرَزَةِ، ثُمَّ يَقُولُ ابْتَعْت هَذِهِ الْخَرَزَةَ بِهَذِهِ الْفِضَّةِ. أَفَيَسْتَجِيزُ رَشِيدٌ أَنْ يَقُولَ: إنَّ الَّذِي حَرَّمَ بَيْعَ الْفِضَّةِ بِالْفِضَّةِ مُتَفَاضِلًا أَحَلَّ تَحْصِيلَ الْفِضَّةِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.app/page/contribute