وَأَنَّ حَاجَةَ يُوسُفَ لَمْ تُبِحْ لَهُ فِعْلَ شَيْءٍ كَانَ حَرَامًا عَلَى الْإِطْلَاقِ فِي الْجُمْلَةِ قِيلَ ذَلِكَ وَهَذَا هُوَ الْمَقْصُودُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
النَّوْعُ الثَّانِي:
مِمَّا ظَنَّ الْمُحْتَالُونَ أَنَّهُ مِنْ الْحِيَلِ سَائِرُ الْعُقُودِ الصَّحِيحَةِ فَقَالُوا: الْبَيْعُ احْتِيَالٌ عَلَى حُصُولِ الْمِلْكِ، وَالنِّكَاحُ احْتِيَالٌ عَلَى حُصُولِ حِلِّ الْبُضْعِ، وَكَذَلِكَ سَائِرُ مَا يَتَصَرَّفُ فِيهِ الْخَلْقُ وَهُوَ احْتِيَالٌ عَلَى طَلَبِ مَصَالِحِهِمْ الَّتِي أَبَاحَهَا اللَّهُ لَهُمْ - وَقَالَ قَائِلُهُمْ: الْحِيلَةُ هِيَ الطَّرِيقُ الَّتِي يَتَوَصَّلُ بِهَا الْإِنْسَانُ إلَى إسْقَاطِ الْمَآثِمِ عَنْ نَفْسِهِ وَقَالَ آخَرُ: هِيَ مَا يَمْنَعُ الْإِنْسَانَ مِنْ تَرْكٍ، أَوْ فِعْلٍ لَوْلَاهَا كَانَ يَلْزَمُهُ مِنْ غَيْرِ إثْمٍ، ثُمَّ قَالُوا: وَهَذَا شَأْنُ سَائِرِ التَّصَرُّفَاتِ الْمُبَاحَةِ، وَقَالُوا: قَدْ «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِعَامِلِهِ عَلَى خَيْبَرَ بِعْ الْجَمْعَ بِالدَّرَاهِمِ، ثُمَّ ابْتَعْ بِالدَّرَاهِمِ جَنِيبًا» ، فَلَمَّا كَانَ مَقْصُودُهُ ابْتِيَاعَ الْجَنِيبِ بِجَمْعٍ أَمَرَهُ أَنْ يَبِيعَ الْجَمْعَ، ثُمَّ يَبْتَاعَ بِثَمَنِهِ جَنِيبًا فَعَقَدَ الْعَقْدَ الْأَوَّلَ لِيَتَوَسَّلَ بِهِ لِلْعَقْدِ الثَّانِي.
قَالُوا: وَهَذِهِ حِيلَةٌ تَضَمَّنَتْ حُصُولَ الْمَقْصُودِ بَعْدَ عَقْدَيْنِ فَهِيَ أَوْكَدُ مِمَّا تَضَمَّنَتْ حُصُولَهُ بَعْدَ عَقْدٍ وَاحِدٍ. وَأَشْبَهَتْ الْعِينَةَ فَإِنَّهُ قَصَدَ أَنْ يُعْطِيَهُ دَرَاهِمَ، فَلَمْ يُمْكِنْ بِعَقْدٍ وَاحِدٍ فَعَقَدَ عَقْدَيْنِ بِأَنْ بَاعَ السِّلْعَةَ ثُمَّ ابْتَاعَهَا، وَالْحِيَلُ الْمَعْرُوفَةُ لَا تَتِمُّ غَالِبًا إلَّا بِأَنْ يَنْضَمَّ إلَى الْعَقْدِ الْآخَرِ شَيْءٌ آخَرُ مِنْ عَقْدٍ آخَرَ. أَوْ فَسْخٍ، أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ.
وَالْجَوَابُ عَنْ هَذَا: أَنَّ تَحْصِيلَ الْمَقَاصِدِ بِالطُّرُقِ الْمَشْرُوعَةِ إلَيْهَا لَيْسَ مِنْ جِنْسِ الْحِيَلِ سَوَاءٌ سُمِّيَ حِيلَةً، أَوْ لَمْ يُسَمَّ، فَلَيْسَ النِّزَاعُ فِي مُجَرَّدِ اللَّفْظِ، بَلْ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا ثَابِتٌ مِنْ جِهَةِ الْوَسِيلَةِ وَالْمَقْصُودِ اللَّذَيْنِ هُمَا الْمُحْتَالُ بِهِ وَالْمُحْتَالُ عَلَيْهِ.
وَذَلِكَ أَنَّ الْبَيْعَ مَقْصُودُهُ الَّذِي شُرِعَ الْبَيْعُ لَهُ أَنْ يَحْصُلَ مِلْكُ الثَّمَنِ لِلْبَائِعِ وَيَحْصُلَ مِلْكُ الْمَبِيعِ لِلْمُشْتَرِي، فَيَكُونَ كُلٌّ مِنْهُمَا مِلْكًا لِمَنْ انْتَقَلَ إلَيْهِ كَسَائِرِ أَمْلَاكِهِ، وَذَلِكَ فِي الْأَمْرِ الْعَامِّ إنَّمَا يَكُونُ إذَا قَصَدَ الْمُشْتَرِي نَفْسَ السِّلْعَةِ لِلِانْتِفَاعِ بِعَيْنِهَا، وَإِنْفَاقِهَا، أَوْ التِّجَارَةِ فِيهَا. فَإِنْ قَصَدَ ثَمَنَهَا الَّذِي هُوَ الدَّرَاهِمُ، أَوْ الدَّنَانِيرُ وَلَمْ يَكُنْ مَقْصُودَهُ إلَّا أَنَّهُ قَدْ احْتَاجَ إلَى دَرَاهِمَ فَابْتَاعَ سِلْعَةً نَسِيئَةً لِيَبِيعَهَا وَيَسْتَنْفِقَ ثَمَنَهَا فَهُوَ التَّوَرُّقُ، وَإِنَّمَا يَكُونُ إذَا قَصَدَ الْبَائِعُ نَفْسَ الثَّمَنِ لِيَنْتَفِعَ بِهِ بِمَا جُعِلَتْ الْأَثْمَانُ لَهُ مِنْ إنْفَاقٍ وَتِجَارَةٍ وَنَحْوِهِمَا، فَإِذَا كَانَ مَقْصُودُ الرَّجُلِ نَفْعَ الْمِلْكِ الْمُبَاحِ بِالْبَيْعِ وَمَا هُوَ مِنْ تَوَابِعِهِ وَحَصَّلَهُ بِالْبَيْعِ فَقَدْ قَصَدَ بِالسَّبَبِ مَا شَرَعَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ لَهُ وَأَتَى بِالسَّبَبِ حَقِيقَةً، وَسَوَاءٌ كَانَ مَقْصُودُهُ يَحْصُلُ بِعَقْدٍ أَوْ عُقُودٍ، مِثْلُ أَنْ يَكُونَ بِيَدِهِ سِلْعَةٌ وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يَبْتَاعَ سِلْعَةً أُخْرَى
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.app/page/contribute