للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

هَذَا فَمُحَالٌ أَنْ يَشْرَعَ اللَّهُ أَنْ يُكَادَ دِينُهُ، وَأَيْضًا فَإِنَّ هَذَا الْكَيْدَ لَا يَتِمُّ إلَّا بِفِعْلٍ يُقْصَدُ بِهِ غَيْرُ مَقْصُودِهِ الشَّرْعِيِّ، وَمُحَالٌ أَنْ يَشْرَعَ اللَّهُ لِعَبْدٍ أَنْ يَقْصِدَ بِفِعْلِهِ مَا لَمْ يَشْرَعْ اللَّهُ ذَلِكَ الْفِعْلَ لَهُ، وَأَيْضًا فَإِنَّ الْأَمْرَ الْمَشْرُوعَ هُوَ عَامٌّ لَا يُخَصُّ بِهِ شَخْصٌ دُونَ شَخْصٍ فَإِنَّ الشَّيْءَ إذَا كَانَ مُبَاحًا لِشَخْصٍ كَانَ مُبَاحًا لِكُلِّ مَنْ كَانَ عَلَى مِثْلِ حَالِهِ - فَإِذَنْ مَنْ احْتَالَ بِحِيلَةٍ فِقْهِيَّةٍ مُحَرَّمَةٍ أَوْ مُبَاحَةٍ لَمْ يَكُنْ لَهُ اخْتِصَاصٌ، بِتِلْكَ الْحِيلَةِ لَا يُفَهِّمُهَا وَلَا يُعَلِّمُهَا، لِأَنَّ الْفُقَهَاءَ كُلَّهُمْ يَشْرَكُونَهُ فِي فَهْمِهَا وَالنَّاسُ كُلُّهُمْ يُسَاوُونَهُ فِي عَمَلِهَا، وَإِنَّمَا فَضِيلَةُ الْفَقِيهِ إذَا حَدَثَتْ حَادِثَةٌ أَنْ يَتَفَطَّنَ لِانْدِرَاجِ هَذِهِ الْحَادِثَةِ تَحْتَ الْحُكْمِ الْعَامِّ الَّذِي يَعْلَمُهُ هُوَ وَغَيْرُهُ، أَوْ يُمْكِنُهُمْ مَعْرِفَتُهُ بِأَدِلَّتِهِ الْعَامَّةِ نَصًّا أَيْضًا وَاسْتِنْبَاطًا فَأَمَّا الْحُكْمُ فَمُتَقَرَّرٌ قَبْلَ تِلْكَ الْحَادِثَةِ فَإِذَنْ احْتِيَاجُ النَّاسِ إلَى الْحِيَلِ لَا يُجَدِّدُ أَحْكَامًا شَرْعِيَّةً لَمْ تَكُنْ مَشْرُوعَةً قَبْلَ ذَلِكَ بَلْ الْأَحْكَامُ مُسْتَقِرَّةٌ وُجِدَتْ تِلْكَ الْحَاجَةُ، أَوْ لَمْ تُوجَدْ، فَإِنْ كَانَ الشَّارِعُ قَدْ جَعَلَ الْحُكْمَ يَتَغَيَّرُ بِتَغَيُّرِ تِلْكَ الْحَاجَةِ كَانَ حُكْمًا عَامًّا وُجِدَتْ حَاجَةُ ذَلِكَ الشَّخْصِ الْمُعَيَّنِ، أَوْ لَمْ تُوجَدْ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ جَعَلَ لِتِلْكَ الْحَاجَةِ تَأْثِيرًا فِي الْحُكْمِ فَالْحُكْمُ وَاحِدٌ سَوَاءٌ وُجِدَتْ تِلْكَ الْحَاجَةُ مُطْلَقًا، أَوْ لَمْ تُوجَدْ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ إنَّمَا كَادَ لِيُوسُفَ كَيْدًا جَزَاءً مِنْهُ عَلَى صَبْرِهِ، وَإِحْسَانِهِ وَذَكَرَهُ فِي مَعْرِضِ الْمِنَّةِ عَلَيْهِ فَلَوْ لَمْ يَكُنْ لِيُوسُفَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - اخْتِصَاصٌ بِذَلِكَ الْكَيْدِ لَمْ يَكُنْ فِي مُجَرَّدِ عَمَلِ الْإِنْسَانِ أَمْرٌ مُبَاحٌ لَهُ وَلِغَيْرِهِ مِنَّةٌ عَلَيْهِ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَقَامِ فَعُلِمَ أَنَّ الْمِنَّةَ كَانَتْ عَلَيْهِ فِي أَنْ أُلْهِمَ الْعَمَلَ بِمَا كَانَ مُبَاحًا قَبْلَ ذَلِكَ فَإِنَّهُ قَدْ يُلْهِمُ الْعَبْدَ مَا لَا يُلْهِمُهُ غَيْرَهُ، وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ فِي قَوْله تَعَالَى {كِدْنَا} [يوسف: ٧٦] صَنَعْنَا، وَبَعْضُهُمْ قَالَ أَلْهَمْنَا يُوسُفَ.

وَمَنْ احْتَالَ بِعَمَلٍ هُوَ مُبَاحٌ فِي نَفْسِهِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي أَبَاحَهُ الشَّارِعُ فَهَذَا جَائِزٌ بِالِاتِّفَاقِ، وَإِنَّمَا الْكَلَامُ فِي أَنَّهُ هَلْ يُبَاحُ لَهُ مَا كَانَ مُحَرَّمًا عَلَى الْإِطْلَاقِ مِثْلُ الْخِيَانَةِ وَالْغُلُولِ، أَوْ يُبَاحُ لَهُ فِعْلُ الْمُبَاحِ عَلَى غَيْرِ الْوَجْهِ الْمَشْرُوعِ مِثْلُ الْحِيَلِ الرِّبَوِيَّةِ؟ يُوَضِّحُ ذَلِكَ: أَنَّ نَفْسَ الْأَحْكَامِ مِثْلُ إبَاحَةِ الْفِعْلِ لَا يَجُوزُ أَنْ تُسَمَّى كَيْدًا.

وَإِنَّمَا الْكَيْدُ فِعْلٌ مِنْ اللَّهِ ابْتِدَاءً، أَوْ فِعْلٌ مِنْ الْعَبْدِ يَكُونُ الْعَبْدُ بِهِ فَاعِلًا، وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ فَلَيْسَ هَذَا مِنْ الْحِيَلِ الشَّرْعِيَّةِ - وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ فِي مَعْنَى الْكَيْدِ إنَّمَا انْضَمَّ إلَيْهِ مَعْرِفَةُ الْأَفْعَالِ الَّتِي فَعَلَهَا يُوسُفُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَالْأَفْعَالِ الَّتِي فَعَلَهَا اللَّهُ لَهُ تَيَقَّنَ اللَّبِيبُ أَنَّ الْكَيْدَ لَمْ يَكُنْ خَارِجًا عَنْ إلْهَامِ فِعْلٍ كَانَ مُبَاحًا، أَوْ فِعْلٍ مِنْ اللَّهِ تَمَّ بِهِ ذَلِكَ الْفِعْلُ،

<<  <  ج: ص:  >  >>