جَوَازِ مُخَادَعَةِ الظَّالِمِ جَوَازُ مُخَادَعَةِ الْمُحِقِّ، فَمَا كَانَ مِنْ التَّعْرِيضِ مُخَالِفًا لِظَاهِرِ اللَّفْظِ فِي نَفْسِهِ كَانَ قَبِيحًا إلَّا عِنْدَ الْحَاجَةِ، وَمَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ كَانَ جَائِزًا إلَّا عِنْدَ تَضَمُّنِ مَفْسَدَةٍ، وَاَلَّذِي يَدْخُلُ فِي الْحِيَلِ إنَّمَا هُوَ الْأَوَّلُ، وَقَدْ ظَهَرَ الْفَرْقُ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ قَصَدَ بِاللَّفْظِ مَا يَحْتَمِلُهُ اللَّفْظُ أَيْضًا. وَأَنَّ هَذَا الْقَصْدَ لِدَفْعِ شَرٍّ، وَالْمُحْتَالُ قَصَدَ بِاللَّفْظِ مَا لَا يَحْتَمِلُهُ وَقَصَدَ بِهِ حُصُولَ شَرٍّ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْمَعَارِيضَ كَمَا تَكُونُ بِالْقَوْلِ فَقَدْ تَكُونُ بِالْفِعْلِ وَقَدْ تَكُونُ بِهِمَا - مِثَالُ ذَلِكَ: أَنْ يُظْهِرَ الْمُحَارِبُ أَنَّهُ يُرِيدُ وَجْهًا مِنْ الْوُجُوهِ وَيُسَافِرَ إلَى تِلْكَ النَّاحِيَةِ لِيَحْسَبَ الْعَدُوُّ أَنَّهُ لَا يُرِيدُهُ ثُمَّ يَكِرَّ عَلَيْهِ، أَوْ يَسْتَطْرِدَ الْمُبَارِزُ بَيْنَ يَدَيْ خَصْمِهِ لِيَظُنَّ هَزِيمَتَهُ، ثُمَّ يَعْطِفَ عَلَيْهِ، وَهَذَا مِنْ مَعْنَى قَوْلِهِ: «الْحَرْبُ خَدْعَةٌ» وَكَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا أَرَادَ غَزْوَةً وَرَّى بِغَيْرِهَا.
وَمِنْ هَذَا الْبَابِ مِمَّا قَدْ يُظَنُّ أَنَّهُ مِنْ جِنْسِ الْحِيَلِ الَّتِي بَيَّنَّا تَحْرِيمَهَا وَلَيْسَ مِنْ جِنْسِهَا قِصَّةُ يُوسُفَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - حِينَ كَادَ اللَّهُ لَهُ فِي أَخْذِ أَخِيهِ كَمَا نَصَّ ذَلِكَ سُبْحَانَهُ فِي كِتَابِهِ فَإِنَّ فِيهَا ضُرُوبًا مِنْ الْحِيَلِ.
أَحَدُهَا: قَوْلُهُ لِفِتْيَتِهِ: {اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [يوسف: ٦٢] فَإِنَّهُ تَسَبَّبَ بِذَلِكَ إلَى رُجُوعِهِمْ وَقَدْ ذَكَرُوا فِي ذَلِكَ مَعَانِيَ مِنْهَا أَنَّهُ تَخَوَّفَ أَنَّهُ لَا يَكُونُ عِنْدَهُمْ وَرِقٌ يَرْجِعُونَ بِهَا، وَمِنْهَا أَنَّهُ خَشِيَ أَنْ يَضُرَّ أَخْذُ الثَّمَنِ بِهِمْ، وَمِنْهَا أَنَّهُ رَأَى لَوْمًا إذَا أَخَذَ الثَّمَنَ مِنْهُمْ، وَمِنْهَا أَنَّهُ أَرَاهُمْ كَرَمَهُ فِي رَدِّ الْبِضَاعَةِ لِيَكُونَ أَدْعَى لَهُمْ لِلْعَوْدِ، وَقَدْ قِيلَ: إنَّهُ عَلِمَ أَنَّ أَمَانَتَهُمْ تُحْوِجُهُمْ إلَى الرَّجْعَةِ، لِيُؤَدُّوهَا إلَيْهِ، فَهَذَا الْمُحْتَالُ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ. وَالْمَقْصُودُ رُجُوعُهُمْ وَمَجِيءُ أَخِيهِ. وَذَلِكَ أَمْرٌ فِيهِ مَنْفَعَةٌ لَهُمْ وَلِأَبِيهِمْ وَلَهُ وَهُوَ مَقْصُودٌ صَالِحٌ، وَإِنَّمَا لَمْ يُعَرِّفْهُمْ نَفْسَهُ لِأَسْبَابٍ أُخَرَ فِيهَا أَيْضًا مَنْفَعَةٌ لَهُ وَلَهُمْ وَلِأَبِيهِمْ، وَتَمَامٌ لِمَا أَرَادَهُ اللَّهُ بِهِمْ مِنْ الْخَيْرِ فِي هَذَا الْبَلَاءِ.
الضَّرْبُ الثَّانِي: أَنَّهُ فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ لَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجِهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ، وَهَذَا الْقَدْرُ يَتَضَمَّنُ إيهَامَ أَنَّ أَخَاهُ سَارِقٌ، وَقَدْ ذَكَرُوا أَنَّ هَذَا كَانَ بِمُوَاطَأَةٍ مِنْ أَخِيهِ وَبِرِضًى مِنْهُ بِذَلِكَ وَالْحَقُّ لَهُ فِي ذَلِكَ. وَقَدْ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.app/page/contribute