للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

{وَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ قَالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [يوسف: ٦٩] .

فَإِنَّ هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ عَرَّفَ أَخَاهُ نَفْسَهُ، وَقَدْ قِيلَ: إنَّهُ لَمْ يُصَرِّحْ لَهُ أَنَّهُ يُوسُفُ، وَإِنَّمَا أَرَادَ أَنَا مَكَانُ أَخِيكَ الْمَفْقُودِ، وَمَنْ قَالَ هَذَا قَالَ إنَّهُ وَضَعَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ وَالْأَخُ لَا يَشْعُرُ، وَهَذَا خِلَافُ الْمَفْهُومِ مِنْ الْقُرْآنِ، وَخِلَافُ مَا عَلَيْهِ الْأَكْثَرُونَ وَفِيهِ تَرْوِيعٌ لِمَنْ لَمْ يَسْتَوْجِبْ التَّرْوِيعَ، وَأَمَّا عَلَى الْأَوَّلِ فَقَالَ كَعْبُ الْأَحْبَارِ لَمَّا قَالَ لَهُ إنِّي أَنَا أَخُوكَ قَالَ بِنْيَامِينُ فَأَنَا لَا أُفَارِقُكَ قَالَ يُوسُفُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَقَدْ عَلِمْتَ اغْتِمَامَ وَالِدِي بِي، وَإِذَا حَبَسْتُك ازْدَادَ غَمُّهُ وَلَا يُمْكِنُنِي هَذَا إلَّا بَعْدَ أَنْ أُشَهِّرَكَ بِأَمْرٍ فَظِيعٍ وَأَنْسُبَكَ إلَى مَا لَا تَحْتَمِلُ قَالَ: لَا أُبَالِي فَافْعَلْ مَا بَدَا لَك فَإِنِّي لَا أُفَارِقُك. قَالَ فَإِنِّي أَدُسُّ صَاعِي هَذَا فِي رَحْلِك، ثُمَّ أُنَادِي عَلَيْكَ بِالسَّرِقَةِ لِيَتَهَيَّأَ لِي رَدُّكَ بَعْدَ تَسْرِيحِكَ. قَالَ: فَافْعَلْ فَذَلِكَ قَوْلُهُ: {فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ} [يوسف: ٧٠] الْآيَةَ فَهَذَا التَّصَرُّفُ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ بِمَا فِيهِ أَذًى لَهُ فِي الظَّاهِرِ إنَّمَا كَانَ بِإِذْنِ الْمَالِكِ.

وَمِثْلُ هَذَا النَّوْعِ مَا ذَكَرَ أَهْلُ السِّيَرِ عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ لَمَّا هَمَّ قَوْمُهُ بِالرِّدَّةِ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَفَّهُمْ عَنْ ذَلِكَ وَأَمَرَهُمْ بِالتَّرَبُّضِ، وَكَانَ يَأْمُرُ ابْنَهُ إذَا رَعَى إبِلَ الصَّدَقَةِ أَنْ يَبْعُدَ، فَإِذَا جَاءَ خَاصَمَهُ بَيْنَ يَدَيْ قَوْمِهِ وَهَمَّ يَضْرِبُهُ فَيَقُومُونَ فَيَشْفَعُونَ إلَيْهِ فِيهِ، وَيَأْمُرُهُ كُلَّ لَيْلَةٍ أَنْ يَزْدَادَ بُعْدًا فَلَمَّا تَكَرَّرَ ذَلِكَ أَمَرَهُ ذَاتَ لَيْلَةٍ أَنْ يَبْعُدَ بِهَا وَجَعَلَ يَنْتَظِرُهُ بَعْدَ مَا دَخَلَ اللَّيْلُ وَهُوَ يَلُومُ قَوْمَهُ عَلَى شَفَاعَتِهِمْ فِيهِ وَمَنْعِهِمْ إيَّاهُ مِنْ عُقُوبَتِهِ وَهُمْ يَعْتَذِرُونَ عَنْ ابْنِهِ وَلَا يُنْكِرُونَ إبْطَاءَهُ حَتَّى إذَا انْهَارَ اللَّيْلُ رَكِبَ فِي طَلَبِهِ فَلَحِقَهُ وَاسْتَاقَ الْإِبِلَ حَتَّى قَدِمَ بِهَا عَلَى أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَكَانَتْ صَدَقَاتُ طَيِّئٍ مِمَّا اسْتَعَانَ بِهَا أَبُو بَكْرٍ فِي قِتَالِ أَهْلِ الرِّدَّةِ، وَكَذَلِكَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّ عَدِيًّا قَالَ لِعُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فِي بَعْضِ الْأُمَرَاءِ: أَمَا تَعْرِفُنِي يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؟ قَالَ: بَلَى أَعْرِفُكَ أَسْلَمْتَ إذَا كَفَرُوا وَوَفَّيْتَ إذَا غَدَرُوا وَأَقْبَلْتَ إذَا أَدْبَرُوا وَعَرَفْتَ إذَا أَنْكَرُوا.

وَمِثْلُ هَذَا مَا أَذِنَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلْوَفْدِ الَّذِينَ أَرَادُوا قَتْلَ كَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ أَنْ يَقُولُوا وَأَذِنَ لِلْحَجَّاجِ بْنِ عِلَاطٍ عَامَ خَيْبَرَ أَنْ يَقُولَ وَهَذَا كُلُّهُ الْأَمْرُ الْمُحْتَالُ بِهِ مُبَاحٌ لِكَوْنِ الَّذِي قَدْ أُوذِيَ قَدْ أَذِنَ فِيهِ، وَالْأَمْرُ الْمُحْتَالُ عَلَيْهِ طَاعَةٌ لِلَّهِ، أَوْ أَمْرٌ مُبَاحٌ.

<<  <  ج: ص:  >  >>