الرابع: الإجماع. لإطباق السلف والخلف؛ فإن الناس لم يزالوا في كل عام إذا قضوا الحج يتوجَّهون إلى زيارته ـ عليه الصلاة والسلام ـ، ومنهم من يفعل ذلك قبل الحج، هكذا شاهدناه وشاهده من قبلنا، وحكاه العلماء عن الأعصار القديمة ـ كما ذكرنا في الباب الثالث ـ.
فإن قلتَ: إنَّ هذا ليس مما يسلمه الخصم؛ لجواز أن يكون سفرهم ضم فيه قصد عبادة أخرى إلى الزيارة، بل هوا الظاهر؛ كما ذكر كثير من المصنفين في المناسك: أنه ينبغي أن ينوي مع زيارته التقرُّب بالتوجه إلى مسجده صلى الله عليه وسلم والصلاة فيه. والخصم ما أنكر أصل الزيارة؛ إنَّما أراد أن يبين كيفية الزيارة المستحبة؛ وهي: أن يضم إليها قصد المسجد؛ كما قاله غيره.
قلتُ: أما المنازعة فيما يقصد الناس؛ فمن أنصف من نفسه وعرف ما الناس عليه؛ عَلِمَ أنهم إنَّما يقصدون بسفرهم الزيارة من حيث يعرّجون إلى طريق المدينة، ولا يخطر غير الزيارة من القربات إلا ببال قليل منهم، ثم مع ذلك هو مغمور بالنسبة إلى الزيارة في حق هذا القليل، وغرضهم الأعظم هو الزيارة حتى لو لم يكن ربما لم يسافروا، ولهذا قلَّ القاصدون إلى بيت المقدس مع تيسر إتيانه، وإن كان في الصلاة فيه من الفضل ... » ، وأخذ يتكلم في إيضاح ذلك إلى أن قال:«وصاحب هذا السؤال إن شك في نفسه فليسأل [كل] من توجَّه إلى المدينة ما قصد بذلك ... » ، وأطال الكلام في هذا الباب جدًّا، ومعظمه قد تقدَّم في الباب الثالث والرابع والخامس؛ فليس في إعادته هنا فائدة، ولكن هذا المعترض أراد بذلك تكبير حجم كتابه.
وليس من غرضنا الرد على جميع ما ذكره ـ فإن ذلك يجرنا إلى الملل ـ؛ ولكن نتكلم على المهم منها؛ وهي الأصول الخمسة التي ذكرها هنا، ونترك له الكلام على ما عدا ذلك، إلا إذا رأينا محل شبهة له فنتكلم عليها، وهو ما بنى هذه الفروع الفقهية والأصولية إلا على هذه الأصول التي ذكرها هنا، ونحن ـ إن شاء الله تعالى ـ نتكلم