وَهَذَا عَكْسُ الْمَعْقُولِ وَنَقْضُ الْأُصُولِ، وَدِينُ الْكِتَابِيِّ لَيْسَ مِنْ أَسْبَابِ التَّحْرِيمِ أَيْضًا، وَأَثَرُهُمَا مُخْتَلِفٌ أَيْضًا فَلَا يَصْلُحُ أَنْ يُجْعَلَا عِلَّةً وَاحِدَةً وَغَيْرُ مُسَلَّمٍ لَهُ أَنْ يَكُونَ نِكَاحُ الْأَمَةِ فِي حُكْمِ الْجَوَازِ ضَرُورِيًّا لَكِنَّهُ فِي حُكْمِ الِاسْتِحْبَابِ مِثْلُ نِكَاحِ الْحُرَّةِ الْكِتَابِيَّةِ لِمَا قُلْنَا مِنْ سُقُوطِ حُرْمَةِ الْإِرْقَاقِ.
ــ
[كشف الأسرار]
حَالِهِ مِنْ الْأَنْكِحَةِ مَا لَمْ يُبِحْ لِلْحُرِّ مَعَ شَرَفِهِ، وَفَضْلِهِ عَلَى الْعَبْدِ.
وَهَذَا أَيْ جَعْلُ الرِّقِّ مِنْ أَسْبَابِ فَضْلِ الْحِلِّ عَكْسُ الْمَعْقُولِ؛ لِأَنَّ الْحِلَّ نِعْمَةٌ تُسْتَحَقُّ بِالشَّرَفِ وَالْفَضْلِ، وَالْعَقْلُ يَأْبَى أَنْ يَكُونَ الْحُرُّ الشَّرِيفُ أَنْقَصَ نِعْمَةً مِنْ الْعَبْدِ الْخَسِيسِ وَنَقْضُ الْأُصُولِ، وَهِيَ أَنْ يَكُونَ أَثَرُ الرِّقِّ فِي التَّنْصِيفِ لَا غَيْرُ وَأَنْ يَكُونَ الْحُرُّ أَوْسَعَ حِلًّا مِنْ الْعَبْدِ، وَأَنْ يَكُونَ الْعَبْدُ أَدْنَى دَرَجَةً مِنْ الْحُرِّ فِي اسْتِحْقَاقِ الْكَرَامَةِ، وَفِيمَا ذَهَبَ إلَيْهِ نَقْضُ هَذِهِ الْأُصُولِ.
وَقَوْلُهُ وَدِينُ الْكِتَابِيِّ جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِ وَكَذَلِكَ الْكُفْرُ يَعْنِي كَمَا أَنَّ الرِّقَّ لَيْسَ مِنْ أَسْبَابِ التَّحْرِيمِ دِينُ الْكِتَابِيِّ كَذَلِكَ أَلَا تَرَى أَنَّ النِّكَاحَ يَصِحُّ مَعَهُ ابْتِدَاءً وَبَقَاءً حَتَّى جَازَ لِلْمُسْلِمِ تَزَوُّجُ الْكِتَابِيَّةِ وَبَقِيَ النِّكَاحُ بَعْدَمَا أَسْلَمَ زَوْجُ الْكِتَابِيَّةِ حَتَّى لَوْ أَبَتْ عَنْ الْإِسْلَامِ لَا يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَا يُوجِبُ انْضِمَامُ الرِّقِّ الْبَيْعَ تَغَلُّظًا فِيهِ وَتَحْرِيمًا لِلنِّكَاحِ لِعَدَمِ تَأْثِيرِهِمَا فِي التَّحْرِيمِ وَلَوْ كَانَ كُفْرُ الْكِتَابِيَّةِ يَتَغَلَّظُ بِالرِّقِّ فِي حُكْمِ النِّكَاحِ لَكَانَ كَذَلِكَ فِي مِلْكِ الْيَمِينِ أَيْضًا كَالْمَجُوسِيَّةِ وَأَثَرُهُمَا مُخْتَلِفٌ يَعْنِي إنْ سَلَّمْنَا أَنَّ الرِّقَّ وَالْكُفْرَ مِنْ الْمَوَانِعِ لَا يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا أَيْضًا لِيَصِيرَا بِمَنْزِلَةِ عِلَّةٍ ذَاتِ وَصْفَيْنِ؛ لِأَنَّ مَنْعَ الرِّقِّ النِّكَاحَ بِاعْتِبَارِ نُقْصَانِ الْحَالِ، وَمَنْعُ الْكُفْرِ إيَّاهُ بِاعْتِبَارِ خُبْثِ الِاعْتِقَادِ فَكَانَ مَنْعُ الْكُفْرِ بِطَرِيقَةٍ غَيْرِ طَرِيقَةِ مَنْعِ الرِّقِّ فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ الْكُلُّ عِلَّةً وَاحِدَةً وَبِدُونِ الِاتِّحَادِ لَا يَثْبُتُ مَعْنَى التَّغَلُّظِ فَكَانَ اجْتِمَاعُهُمَا بِمَنْزِلَةِ اجْتِمَاعِ عِلَّتَيْنِ فِي شَخْصٍ وَاحِدٍ فَلَمْ يَقْوَ أَحَدُهُمَا بِالْآخِرِ كَابْنَيْ عَمٍّ أَحَدُهُمَا زَوْجٌ أَوْ أَخٌ لِأُمٍّ.
قَالَ الْقَاضِي الْإِمَامُ فِي الْأَسْرَارِ: أَمَّا اعْتِبَارُ الْخُبْثِ فَفَاسِدٌ؛ لِأَنَّ الْخُبْثَ بِالْكُفْرِ مِنْ طَرِيقِ الشَّرْعِ وَبِالرِّقِّ لَا يَزْدَادُ خُبْثُ الْكُفْرِ فَالرَّقِيقُ رُبَّمَا يَكُونُ أَنْقَى، وَأَتْقَى مِنْ الْحُرِّ فَيَكُونُ أَطْهَرَ شَرْعًا إنَّمَا سُقُوطُ مَنْزِلَتِهِ عِنْدَ النَّاسِ، وَمَا لَهُ أَثَرٌ فِي تَحْرِيمِ الْحِلِّ.
وَقَوْلُهُ: وَغَيْرُ مُسْلِمٍ جَوَابٌ عَنْ النُّكْتَةِ الثَّانِيَةِ يَعْنِي لَا نُسَلِّمُ أَنَّ جَوَازَ نِكَاحِ الْأَمَةِ بِطَرِيقِ الضَّرُورَةِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الرَّقِيقَ فِي النِّصْفِ مِثْلُ الْحُرِّ، وَكَمَا أَنَّ نِكَاحَ الْحُرَّةِ بِطَرِيقِ الْأَصَالَةِ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ لَا بِطَرِيقِ الضَّرُورَةِ فَكَذَلِكَ نِكَاحُ الْأَمَةِ فِي النِّصْفِ الْبَاقِي لَهَا وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَوْ تَزَوَّجَ أَمَةً ثُمَّ تَزَوَّجَ حُرَّةً لَا يَبْطُلُ نِكَاحُ الْأَمَةِ، وَلَوْ كَانَ جَوَازُ نِكَاحِ الْأَمَةِ ضَرُورِيًّا لَمَا بَقِيَ بَعْدَمَا زَالَتْ الضَّرُورَةُ بِنِكَاحِ الْحُرَّةِ كَمَا لَوْ قَدَرَ الْمُتَيَمِّمُ عَلَى الْمَاءِ فِي خِلَالِ الصَّلَاةِ أَوْ قَدَرَ الْمُضْطَرُّ عَلَى الطَّعَامِ الْحَلَالِ فِي خِلَالِ أَكْلِ الْمَيْتَةِ وَلَا يُقَالُ الْقُدْرَةُ عَلَى الْأَصْلِ لَا يُبْطِلُ حُكْمَ الْبَدَلِ بَعْدَ حُصُولِ الْمَقْصُودِ، وَهَاهُنَا لَمَّا جَازَ الْعَقْدُ وَتَمَّ فَقَدْ حَصَلَ الْمَقْصُودُ؛ لِأَنَّا نَقُولُ: نَحْنُ لَا نُسَلِّمُ حُصُولَ الْمَقْصُودِ فَإِنَّ النِّكَاحَ عَقْدُ عُمُرٍ، وَحُصُولُ الْمَقْصُودِ عَنْهُ بِانْقِضَاءِ الْعُمُرِ فَقَبْلَ الِانْقِضَاءِ لَا يَتِمُّ الْمَقْصُودُ، لَكِنَّهُ فِي حُكْمِ الِاسْتِحْبَابِ يَعْنِي أَنَّهُ فِي حُكْمِ الْجَوَازِ لَيْسَ بِضَرُورِيٍّ، وَلَكِنَّهُ فِي حُكْمِ الِاسْتِحْبَابِ ضَرُورِيٌّ مِثْلُ نِكَاحِ الْحُرَّةِ الْكِتَابِيَّةِ مَعَ وُجُودِ الْمُؤْمِنَةِ لِمَا قُلْنَا مِنْ سُقُوطِ حُرْمَةِ الْإِرْقَاقِ هَذَا تَعْلِيلٌ لِكَوْنِهِ غَيْرَ ضَرُورِيٍّ يَعْنِي لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ ضَرُورِيٌّ؛ لِأَنَّ كَوْنَهُ ضَرُورِيًّا مَبْنِيٌّ عَلَى ثُبُوتِ حُرْمَةِ الْإِرْقَاقِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ حُرْمَةَ الْإِرْقَاقِ سَاقِطَةٌ فَانْتَفَى كَوْنُهُ ضَرُورِيًّا لِانْتِفَاءِ دَلِيلِهِ.
قَوْلُهُ: (وَمِثَالُهُ أَيْضًا) أَيْ مِثَالٌ آخَرُ لِلتَّرْجِيحِ بِقُوَّةِ الْأَثَرِ تَرْجِيحُ دَلِيلِنَا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إذَا أَسْلَمَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، وَلَا يُمْكِنُ إبْقَاءُ النِّكَاحِ بَيْنَهُمَا إنْ أَسْلَمَتْ الْمَرْأَةُ وَبَقِيَ الزَّوْجُ كَافِرًا أَوْ أَسْلَمَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.app/page/contribute