وَالنَّوْعُ الثَّانِي مَا ظَهَرَ فَسَادُهُ وَاسْتَتَرَتْ صِحَّتُهُ وَأَثَرُهُ وَأَحَدُ نَوْعَيْ الِاسْتِحْسَانِ مَا قَوِيَ أَثَرُهُ، وَإِنْ كَانَ خَفِيًّا، وَالثَّانِي مَا ظَهَرَ أَثَرُهُ وَخَفِيَ فَسَادُهُ، وَإِنَّمَا الِاسْتِحْسَانُ عِنْدَنَا أَحَدُ الْقِيَاسَيْنِ لَكِنَّهُ يُسَمَّى بِهِ
ــ
[كشف الأسرار]
وَجْهُ الْقِيَاسِ وَضَعُفَ وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ وَفَسَدَ. فَبِالنَّظَرِ إلَى وَجْهَيْ الْقِيَاسِ وَالِاسْتِحْسَانِ أَوَّلًا كَانَ وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَخْفَى، وَأَقْوَى مِنْ وَجْهِ الْقِيَاسِ فَصَحَّ تَسْمِيَتُهُ اسْتِحْسَانًا كَمَا فِي سَائِرِ صُوَرِ الْقِيَاسِ وَالِاسْتِحْسَانِ بِالنَّظَرِ إلَى الْمَعْنَى الْخَفِيِّ اللَّاحِقِ بِالْقِيَاسِ ثَانِيًا كَانَ وَجْهُ الْقِيَاسِ أَقْوَى فَتَرَجَّحَ وَجْهُ الْقِيَاسِ وَضَعُفَ وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ فَهَذَا مَعْنًى دَقِيقٌ يَنْدَفِعُ بِهِ سُؤَالَاتُ الْخُصُومِ فَافْهَمْ.
وَاعْلَمْ أَنَّ بَعْضَ الْقَادِحِينَ فِي الْمُسْلِمِينَ طَعَنَ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَصْحَابِهِ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - فِي تَرْكِهِمْ الْقِيَاسَ بِالِاسْتِحْسَانِ، وَقَالَ: حُجَجُ الشَّرْعِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ وَالْقِيَاسُ، وَالِاسْتِحْسَانُ قِسْمٌ خَامِسٌ لَمْ يَعْرِفْ أَحَدٌ مِنْ حَمَلَةِ الشَّرْعِ سِوَى أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَصْحَابِهِ أَنَّهُ مِنْ دَلَائِلِ الشَّرْعِ، وَلَمْ يَقُمْ عَلَيْهِ دَلِيلٌ بَلْ هُوَ قَوْلٌ بِالتَّشَهِّي فَكَانَ تَرْكُ الْقِيَاسِ بِهِ تَرْكًا لِلْحُجَّةِ لِاتِّبَاعِ هِيَ أَوْ شَهْوَةِ نَفْسٍ فَكَانَ بَاطِلًا ثُمَّ قَالَ إنَّ الْقِيَاسَ الَّذِي تَرَكُوهُ بِالِاسْتِحْسَانِ إنْ كَانَ حُجَّةً شَرْعِيَّةً فَالْحُجَّةُ الشَّرْعِيَّةُ حَقٌّ، وَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إلَّا الضَّلَالُ، وَإِنْ كَانَ بَاطِلًا فَالْبَاطِلُ وَاجِبُ التَّرْكِ، وَمِمَّا لَا يُشْتَغَلُ بِذِكْرِهِ، وَإِنَّهُمْ قَدْ ذَكَرُوا فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ أَنَّا نَأْخُذُ بِالْقِيَاسِ وَنَتْرُكُ الِاسْتِحْسَانَ بِهِ فَكَيْفَ يُجَوِّزُونَ الْأَخْذَ بِالْبَاطِلِ وَالْعَمَلَ بِهِ، وَذَكَرَ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ مَا يَدُلُّ عَلَى قِلَّةِ الْوَرَعِ، وَكَثْرَةِ التَّحَيُّزِ وَالْعَدَاوَةِ.
وَنُقِلَ عَنْ الشَّافِعِيِّ أَيْضًا أَنَّهُ بَالَغَ فِي إنْكَارِ الِاسْتِحْسَانِ، وَقَالَ مَنْ اسْتَحْسَنَ فَقَدْ شَرَّعَ وَكُلُّ ذَلِكَ طَعْنٌ مِنْ غَيْرِ رَوِيَّةٍ، وَقَدْحٌ مِنْ غَيْرِ وُقُوفٍ عَلَى الْمُرَادِ فَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَجَلُّ قَدْرًا، وَأَشَدُّ وَرَعًا مِنْ أَنْ يَقُولَ فِي الدِّينِ بِالتَّشَهِّي أَوْ عَمِلَ بِمَا اسْتَحْسَنَهُ مِنْ دَلِيلٍ قَامَ عَلَيْهِ شَرْعًا فَالشَّيْخُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَقَدَ الْبَابَ لِبَيَانِ الْمُرَادِ مِنْ هَذَا اللَّفْظِ وَالْكَشْفِ عَنْ حَقِيقَتِهِ دَفْعًا لِهَذَا الطَّعْنِ فَقَالَ: بَعْدَمَا قَسَّمَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْقِيَاسِ وَالِاسْتِحْسَانِ عَلَى نَوْعَيْنِ، وَإِنَّمَا الِاسْتِحْسَانُ عِنْدَنَا أَحَدُ الْقِيَاسَيْنِ وَاخْتَلَفَ عِبَارَاتُ أَصْحَابِنَا فِي تَفْسِيرِ الِاسْتِحْسَانِ الَّذِي قَالَ بِهِ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَالَ بَعْضُهُمْ هُوَ الْعُدُولُ عَنْ مُوجِبِ قِيَاسٍ إلَى قِيَاسٍ أَقْوَى مِنْهُ كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ الشَّيْخُ، وَلَكِنْ لَمْ يَدْخُلْ فِي هَذَا التَّعْرِيفِ الِاسْتِحْسَانُ الثَّابِتُ بِدَلِيلٍ آخَرَ غَيْرِ الْقِيَاسِ مِثْلُ مَا ثَبَتَ بِالْأَثَرِ أَوْ الْإِجْمَاعِ وَالضَّرُورَةِ إلَّا أَنَّ مَقْصُودَ الشَّيْخِ مَا سَنَذْكُرُهُ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ هُوَ تَخْصِيصُ قِيَاسٍ بِدَلِيلٍ أَقْوَى مِنْهُ، وَهَذَا اللَّفْظُ، وَإِنْ عَمَّ جَمِيعَ أَنْوَاعِ الْقِيَاسِ، وَلَكِنَّهُ يُشِيرُ إلَى أَنَّ الِاسْتِحْسَانَ تَخْصِيصُ الْعِلَّةِ، وَإِنَّهُ لَيْسَ بِتَخْصِيصٍ وَعَنْ الشَّيْخِ أَبِي الْحَسَنِ الْكَرْخِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ الِاسْتِحْسَانَ هُوَ أَنْ يَعْدِلَ الْإِنْسَانُ عَنْ أَنْ يَحْكُمَ فِي الْمَسْأَلَةِ بِمِثْلِ مَا حَكَمَ بِهِ فِي نَظَائِرِهَا إلَى خِلَافِهِ لِوَجْهٍ أَقْوَى يَقْتَضِي الْعُدُولَ عَنْ الْأَوَّلِ وَيَلْزَمُ عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ الْعُدُولُ عَنْ الْعُمُومِ إلَى التَّخْصِيصِ وَعَنْ الْمَنْسُوخِ إلَى النَّاسِخِ اسْتِحْسَانًا، وَلَيْسَ كَذَلِكَ وَيَلْزَمُ عَلَى جَمِيعِ هَذِهِ الْعِبَارَاتِ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ تَرَكْت الِاسْتِحْسَانَ بِالْقِيَاسِ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ حِينَئِذٍ كَأَنَّهُ، قَالَ تَرَكْت الْقِيَاسَ الْأَقْوَى أَوْ الدَّلِيلَ الْأَقْوَى بِالْأَضْعَفِ، وَإِنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ.
وَأُجِيبَ عَنْهُ بِأَنَّ الْمَتْرُوكَ سُمِّيَ اسْتِحْسَانًا؛ لِأَنَّهُ أَقْوَى مِنْ الْقِيَاسِ وَحْدَهُ، وَلَكِنْ اتَّصَلَ بِالْقِيَاسِ مَعْنًى آخَرُ صَارَ ذَلِكَ الْمَجْمُوعُ أَقْوَى مِنْ الِاسْتِحْسَانِ فَلِذَلِكَ تَرَكَ الْعَمَلَ بِهِ، وَأَخَذَ بِالْقِيَاسِ. وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا الِاسْتِحْسَانُ هُوَ الْقِيَاسُ الْخَفِيُّ، وَإِنَّمَا سَمِعَ بِهِ؛ لِأَنَّهُ فِي الْأَكْثَرِ الْأَغْلَبِ يَكُونُ أَقْوَى مِنْ الْقِيَاسِ الظَّاهِرِ فَيَكُونُ الْآخِذُ بِهِ مُسْتَحْسِنًا، وَلَمَّا صَارَ اسْمًا لِهَذَا النَّوْعِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.app/page/contribute