للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ولذلك فإن ابن القيم بعد أن فسر جمع الخلق الوارد في أول الحديث بالتصوير الخفي صرح بأن ذلك الجمع إنما يحدث في الأربعين الأول، ولم يدخل فيه مرحلة العلقة ومرحلة المضغة، وإنما يتم كل طور من هذين الطورين بانصرام أربعين يوماً على نهاية المرحلة التي قبلها، ثم يكون نفخ الروح في بداية الأربعين الرابعة (١)

٦ - كان العلماء المسلمون يدركون تمام الإدراك أن الجنين ينمو ويتخلق ويكتمل تصويره وتخليقه قبل تمام الأشهر الأربعة، وكان هذا معروفاً لديهم في الشرع وفي الطب: فأما في الشرع فقد صح من حديث الرسول صلى الله عليه وسلم قوله: ((إذا مر بالنطفة ثنتان وأربعون ليلة بعث الله إليها ملكاً فصورها وخلق سمعها وبصرها وجلدها ولحمها وعظامها ... )) (٢) ؛ فهذا خبر واضح في أن تصوير الجنين وخلق كافة أعضائه يكون بعد ستة أسابيع من عمره في بطن أنه. وأما طبياً فقد نقل أكثر من فقيه مسلم عن أطباء عصرهم أن الجنين يستكمل أعضاءه قبل تمام الأشهر الأربعة، وأن ذلك لا يتعارض مع ما جاء به الشرع من حقيقة تأخر نفخ الروح إلى ما بعد تمام تلك الأشهر الأربعة، بل يقتضيه ويتلاءم مع مقتضى الحكمة؟ فإن مقتضاها أن الروح لا تتعلق بالجنين إلا بعد تمام خلقه لا قبله؟ لأن البدن مركب لها، وآلة تستعملها في تحقيق ما خلقت من أجله، والحكمة تقتضي إعداد المركب وتحضير الآلة قبل خلق الراكب المستعمل لها، وفيما يلي أذكر نصوصاً لعلمائنا توضح ذلك:

يقول ابن قيم الجوزئة: (إذا اشتمل الرحم على المني ولم يقذف به إلى خارج استدار على نفسه وصار كالكرة، وأخذ في الشدة إلى تمام ستة أيام، فإذا اشتد نقط فيه نقطة في الوسط، وهي موضع القلب، ونقطة في أعلاه، وهي نقطة الدماغ، وفي اليمين، وهي نقطة الكبد. ثم تتباعد تلك النقط ويظهر بينها خطوط حمر إلى تمام ثلاثة أيام أخر، ثم تنفذ الدموية في الجميع بعد ستة أيام أخر، فيصير ذلك خمسة عشر يوماً، ويصير المجموع سبعة وعشرين يوما، ثم ينفصل الرأس عن المنكبين، والأطراف عن الضلوع، والبطن عن الجنبين، وذلك في تسعة أيام، فتصير ستة وثلاثين يوماً، ثم يتم هذا التمييز بحيث يظهر للحس ظهوراً بينا في تمام أربعة أيام، فيصير المجموع أربعين يوماً تجمع خلقه ... وهذا مطابق لقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق على صحته: ((ان أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً)) . واكتفى النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الإجمال عن التفصيل. وهذا يقتضي أن الله قد جمع فيها خلقها جمعاً خفياً. وذلك الخفي في ظهور خفي على التدريج، ثم يكون مضغة أربعين يوماً أخرى، وذلك التخليق يتزايد شيئاً فشيئاً إلى أن يظهر للحس ظهوراً لا خفاء به كله، والروح لم تتعلق به بعد؛ فإنها إنما تتعلق به في الأربعين الرابعة بعد مائة وعشرين يوماً، كما أخبر به الصادق، وذلك مما لا سبيل إلى معرفته إلا بالوحي، إذ ليس في الطبيعة ما يقتضيه، فلذلك حار فضلاء الأطباء وأذكياء الفلاسفة في ذلك، وقالوا: إن هذا مما لا سبيل إلى معرفته إلا بحسب الظن البعيد ... وحقيقة العلم فيه عند الله تعالى، لا مطمع لأحد من الخلق في الوقوف عليه) ، ثم قال ابن القيم: (قد أوقفنا عليه الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى بما ثبت في الصحيحين: (إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يوماً ... الخ) (٣)


(١) التبيان: ص ٣٣٧.
(٢) رواه مسلم - انظر مختصر صحيح مسلم حديث رقم ١٨٤٩.
(٣) التبيان ص ٣٣٧، ٣٣٨.

<<  <  ج: ص:  >  >>