للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وكل من تعرض لشرح حديث ابن مسعود رضي الله عنه - الذي رواه البخاري ومسلم - أخذ بالتحديد المذكور في الحديث، وحمله على ظاهره، ولم يؤوله تأويلاً آخر. ولم ينقل أي واحد من شراح ذلك الحديث قولاً مخالفاً لعالم من علماء المسلمين (١)

وبالرغم من هذا الاتفاق الذي لم تخرمه مخالفة أحد من علماء المسلمين القدامى فقد وجد من الباحثين المعاصرين من قال بأن نفخ الروح يكون بعد الأربعين الأولى من مبدأ تكون الجنين في بطن أمه. وربما تأثروا في ذلك بما يقرره الأطباء من بدء تخلق الجنين في مرحلة مبكرة، واكتمال أعضائه الرئيسة قبل أربعة أشهر بأربعين يوماً تقريباً، وظناً منهم أن علماء المسلمين كانوا يجهلون هذه الحقيقة الطبية، وأنهم كانوا معذورين في حمل حديث ابن مسعود على ظاهره؛ لعدم معرفتهم بحالة الجنين في واقع الأمر. ولما كان هذا الرأي مخالفاً لظاهر الحديث المذكور أخذوا يبحثون عن تأويلات له تتفق مع الاتجاه الذي اتخذوه فمنهم من زعم أن رواية ابن مسعود رواية شاذة. ومنهم من سلم بصحتها، ولكنه رأى أنها لا تفيد أن نفخ الروح يكون بعد مائة وعشرين يوماً، وأن المراحل التي ذكرت فيه كلها تقع في أربعين يوما، والتمس لتوجيه رأيه بعض الاختلاف في اللفظ بين رواية البخاري ورواية مسلم؛ وذلك أن رواية مسلم وردت هكذا: "إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً، ثم يكون في ذلك علقة مثل ذلك، ثم يكون في ذلك مضغة مثل ذلك ... "؛ فزعم أن الإشارة الأولى تعود إلى "الأربعين يوماً" ولا تعود إلى بطن الأم، فيكون علقة ومضغة في الأربعين الأولى، فرتب على ذلك أن نفخ الروح يكون بعد أربعين يوماً وليس بعد مائة وعشرين يوماً. ثم رأى أن هذا التأويل ينبغي أن يصار إليه للتوفيق بين رواية ابن مسعود وروايات أخر ذكر فيها أن الملك الذي نسب إليه نفخ الروح في حديث ابن مسعود وكتب القدر من رزق وأجل وشقاوة وسعادة وغير ذلك، إنما يرسل إلى الجنين بعد أربعين يوماً (٢)

وهذا الاتجاه في تأويل حديث ابن مسعود، المتفق على صحته، والذي بلغ حد الشهرة وتلقته الأمة بالقبول (٣) فيه تكلف ظاهر، ولي لأعناق النصوص، وتقويم غير سليم لها، لما يأتي:

ا - الروايات التي ذكر فيها نفخ الروح ليس فيها أي نوع من التعارض، بل جاء ذكر نفخ الروح فيها بعد مائة وعشرين يوماً من تكون الجنين. وأما التعارض الموهوم فإنما جاء بين أحاديث أخرى لم تتعرض لذكر الروح، وإنما سيقت لبيان القدر المكتوب على الإنسان، فاختلفت في وقت كتابة القدر ولم تختلف في وقت نفخ الروح؛ لأنها لم تتعرض لذكره أصلاً، فإقحام نفخ الروح في الروايات المتعارضة غير صحيح. ومع ذلك فقد وجد من العلماء القدامى من جمع بين تلك الروايات المتعارضة في الظاهر من حيث وقت كتابة القدر، دون المساس بما ورد في حديث ابن مسعود عن وقت نفخ الروح (٤)


(١) انظر فتح الباري: ١١/٤٠٥، وجميع شروح الصحيحين والروح لابن القيم: ص ٢٣٧، والتبيان له: ص ٣٣٧، وشفاء العليل له أيضاً: ص ٢٢.
(٢) انظر الثبت الكامل لندوة "الحياة الإنسانية: بدايتها ونهايتها في المفهوم الإسلامي": ص ٢٤٦، ٢٥٣.
(٣) جامع العلوم والحكم: ص ٤٤. وانظر كثرة رواة حديث ابن مسعود وتعدد طرقه عن كثير من الصحابة في فتح الباري: ١١/ ٤١٧ وما بعدها، وقال ابن حجر عن هذا الحديث (وكنت خرجته في جزء من طرق نحو الأربعين نفساً عن الأعمش: ١١/٤١٨) .
(٤) انظر شفاء العليل: ص ٢٢.

<<  <  ج: ص:  >  >>