للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ثم إنك تجد الشخص الواحد يفكر في موضوع معين، وتجد أن رأيه فيه قد يختلف باختلاف الزمان، والدماغ المستعمل واحد، وخلاياه واحدة، فلماذا لم تتشابه نتائج التفكير في هذا الدماغ مع وحدة خلاياه وعدم تغيرها؟

هل هناك من تفسير لتعدد منتجات هذا الجهاز المسمى بالدماغ واختلافها باختلاف الأشخاص والأحوال والأزمان سوى تفسير واحد هو أن هذا الجهاز لا يقوم بتلك الأنشطة بذاته، وإنما يوجد وراءه مخلوق حي مريد بذاته يستعمل ذلك الجهاز بأساليب متعددة وهيئات مختلفة، وهو في ذاته مختلف بين شخص وشخص؛ لا سبيل إلى تفسير أنشطة الإنسان الإرادية والفكرية بغير هذا. ونسبتها إلى الدماغ لا ينبغي أن تتعدى نسبة المصنوع إلى آلة الصانع الحقيقي، وأما الصانع الحقيقي فهو ذلك المخلوق الحي المريد العاقل الذي سماه الشرع روحاً أو نفساً.

وأما ارتباط وجود العمل الإرادي والفكري بوجود الدماغ، وعدم إمكانه بغيره في هذه الحياة الدنيا (إن صح عند أهل الاختصاص على إطلاقه) ، فنرى أنه لا ينقض ما تقدم برهانه من وجود مخلوق حي مريد بذاته وراء الدماغ ينشىء ذلك العمل. وإنما يضيف إليه إضافة جديدة مفادها أن ذلك المخلوق الحي العاقل المريد قد جعل الخالق قيامه بوظائفه في هذه الدنيا عن طريق الدماغ، فجعله مخزناً لمعلوماته وإدراكاته ومجمعاً لاتصالاته إرسالاً واستقبالاً؛ فمن خلال الدماغ يؤثر ذلك المخلوق في الجسد، فإذا تعطل هذا الجهاز المسمى بالدماغ انقطع اتصال ذلك المخلوق المريد العاقل بالجسد، وانقطع عن تأثيره فيه، فيكون وجود الدماغ شرطاً لبقاء ذلك المخلوق في جسد الإنسان وتأثيره فيه. وبالتالي يكون شرطاً لبقاء الحياة الإنسانية الإرادية، وليس سبباً في وجودها؛ بمعنى أن عدمه يستلزم انعدام تلك الحياة ورحيل مصدرها عن الجسد وحصول الموت. ولكن وجود الدماغ لا يستلزم وجود تلك الحياة من الناحية النظرية. وإذا كانت التجارب العلمية تمكنت من أثبات الشطر الأول من هذه المقولة، ولم تستطع الوصول إلى أثبات الشطر الثاني منها، فإن ذلك لا يدل على بطلان هذا الشطر. بل إن النظر العقلي الذي قدمناه يثبت صحته ويؤكده؛ لأن الدماغ بتكوينه المعروف ونوع الحياة التي تكون منها لا يتصور أن يكون في ذاته مصدراً للأنشطة الإرادية والفكرية التي يقوم بها الإنسان، وإنما يجب أن تكون تلك الأنشطة متولدة عن مصدر حي مريد عاقل في ذاته. وإذا لوحظ الارتباط الواقعي المستمر بين وجود الدماغ ووجود الحياة الإرادية الفكرية، فإن هذا لا ينقض ما يحكم به النظر العقلي، وإنما يدل على عجز التجارب وأهلها عن مواصلة البحث إلى مداه، وذلك أن الاتصال بين حياة الجسد المجردة عن الإرادة والفكر وحياة الروح وعدم وجود صورة الانفصال بينهما في هذه الدنيا لا يرجع إلى كون الأولى مولدة للثانية، وإنما يرجع إلى سبب آخر، وهو أن الحياة الأولى المجردة من الفكر والإرادة ليست مقصودة لذاتها، وإنما خلقت لتكون مركباً لحياة الفكر والإرادة التي مصدرها الروح. وليس من المتصور في واقع هذه الدنيا أن يخلق اله جسداً بكامل أعضائه، ولا يمزج معه حياة الفكر والإرادة؛ لأن هذا يتنافى مع الحكمة من خلق الإنسان، وهو الابتلاء بإعمار الأرض وفق المناهج الإلهية، والعقل لا يمنع أن ينفصل المصدر الذي تنبثق منه حياة الفكر والإرادة عن مصدر الحياة الأخرى عندما يموت الإنسان، وهو ما قررته الشرائع الإلهية. ولكن العقل لا يتمكن من رصد ذلك المصدر منفصلاً عن الجسد بعد رحيله عنه بالموت، ولا يمكنه ذلك أثناء الحياة ما دام الجسد كله صالحاً وغير مستعص على تعلق ذلك المصدر به، وصلاح الجسد للتعلق بذلك المصدر مرهون بصلاح الدماغ، لأنه حلقة الوصل بين ذلك المصدر وبين بقية أعضاء الجسد.

<<  <  ج: ص:  >  >>