للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وأما ما يؤثر عن بعض العلماء الماديين من أن الإرادة والفكر والشعور وغيرها من الأنشطة الإنسانية الاختيارية إنما تنشاً عن الدماغ نتيجة تفاعلات كيميائية وفيزيائية، فهذا رأي لا يؤيده النظر، ويؤدي إلى نتائج غير مقبولة لا عقلياً ولا واقعياً؛ وذلك أن كل تفاعل لا بد له من عامل أو مؤثر يتسبب به، وهذا المؤثر إما أن يكون خارج الإنسان أو داخله، فإن كان خارج الإنسان، فمعنى ذلك أن أفكار كل إنسان وأنشطته الإرادية ومشاعره المختلفة كل ذلك ثمرات إلزامية لأمور لا يد له فيها، وغاية ما في الأمر أنه كان وعاءً جرى فيه التفاعل بتأثير غيره، وكل ما على وجه الأرض من الإنجازات العلمية والكشوف والعلوم ليست إلا ردود فعل لمؤثرات خارجية، ولا دخل لأصحابها فيها، ولا يستحقون عليها جزاء ولا شكوراً، وهذا اتجاه لتجريد الإنسان من الإرادة في كل ما يقوم به، وهو ينافي تماماً ما نشعر ونحس به، ويؤول في الوقت ذاته إلى إعفائه من مسؤولية أعماله، وهو تفسير للحياة الإنسانية بالفوضوية؛ لربط أنشطتها كلها بمصادر غير إرادية، ومع هذه النتائج الشاذة التي يؤدي إليها هذا الرأي إلا أنه مبهم وغير مفهوم في ضوء ما عرف من سنن الكون وموجوداته، إذ كيف يمكن لمؤثر خارج دماغ الإنسان أن يكون سبباً مباشراً في إجراء تفاعل مادي كيميائي أو فيزيائي داخل الدماغ؛ فهل عهد في مختلف أصناف التفاعلات، وما تجري عليه من العناصر خارج الكيان الإنساني أن تؤثر الأمور المعنوية في إجراء تفاعل كيميائي أو فيزيائي؛ ولماذا لا يستطيع العلماء الماديون أن يرتبوا - ولو مرة واحدة - تجربة توضع فيها العناصر والمركبات في أنابيب الأختبار، ثم يدفعوها إلى التفاعل بالتأثيرات المعنوية بدلاً من العوامل المادية المعهودة؟

هذا على فرض أن المؤثر في إجراء التفاعل المزعوم في الدماغ البشري كان من خارج الإنسان، وأما على افتراض أنه كان من داخله فما هو؛ هل هو مجرد احتكاك الخلايا والأعصاب أم هو مجرد وصول الدماء إلى عروق الدماغ أم هو شيء آخر؛ فليكن أي شيء، فلماذا تتعدد وتختلف نتائج ذلك التفاعل الكيميائي المزعوم باختلاف الأشخاص من جهة، وباختلاف الأزمان والساعات والأحوال في الشخص الواحد من جهة أخرى؛ إن محتويات الأدمغة واحدة في الأشخاص وفي الأزمان، وأنشطتها المادية واحدة، فلماذا تتعدد إذن نتائج التفاعلات التي تحدث فيها؛ فتتعدد الأفكار وتتعدد المشاعر والأحاسيس، وتتعدد الاكتشافات وتتعدد المواهب عند الأشخاص، بل وتتعدد عند الشخص الواحد: فتجده في الساعة الواحدة يتقلب من حال إلى حال، في مشاعره وأحاسيسه وأفكاره، فلماذا تكون النتائج مختلفة لمعادلة كيميائية واحدة، عناصرها واحدة، ومؤثراتها واحدة؛ ألا يدل ذلك على وجود مصدر آخر غير الدماغ وما يزعم من تفاعلات تجري فيه؛ الجهاز واحد هو الدماغ، وهو عند أبناء آدم متشابه في مكوناته المشاهدة المحسوسة ولا يختلف سوى في الوزن أو في الشكل ونحو ذلك، ومن المؤكد علمياً أن هذه الأمور غير مؤثرة في اختلاف وظائف الأدمغة عند البشر، ودماغ الشخص الواحد لا يختلف في تكوينه وعناصره ومحتوياته كلها بين آن وآن، ولا حال وحال، ولا مكان ومكان، ومع ذلك فإن منتجات صاحب هذا الدماغ من الأنشطة الإرادية والأفكار والمشاعر والخواطر والخيالات وغير ذلك مختلفة ومتعددة تعدداً لا نظير له.

خذ أي عدد من الناس كثر أو قل، ثم اجمعهم في قاعة واحدة، وأنشىء لهم دافعاً واحداً للتفكير، فاسألهم سؤالاً يحتاج في جوابه إلى النظر والاجتهاد أو اطلب منهم أن يكتبوا موضوعاً معيناً، ثم انظر ماذا ترى؛ فمع أن المؤثر واحد ومع أن لكل منهم دماغاً، وكل دماغ يشبه الآخر في تركيبه العضوي، مع كل ذلك فإن النتائج ستكون مختلفة، ومنتجات الأدمغة ستكون متعددة، وسيظهر بينها اختلافات واضحة. فلماذا هذا التفاوت في منتجات الأدمغة بين هؤلاء الناس مع تشابه أدمغتهم في تكوينها؛ إن تشابه التكوين واتحاد المؤثر لم يؤد إلى تشابه النتائج مع أنه كان ينبغي أن يؤدي إلى نوع واحد من التفاعلات المزعومة.

<<  <  ج: ص:  >  >>