وقد يعترض على ما تقدم بأن بقاء نوع من الحياة في بعض أجزاء الجسد بعد وفاة صاحبه، لا يدل على أكثر من وجود نوعين من الحياة كانتا مجتمعتين في الإنسان الحي، إحداهما أرقى من الأخرى، وقد ذهبت الأولى وبقيت الأخرى. ولا يلزم أن مصدر الأولى مخلوق آخر حي عاقل جمع مع بدن الإنسان في طور من أطواره؛ وذلك أن هذا الذي ذهبتم إليه هو أحد احتمالين يقبلهما العقل. وأما الاحتمال الآخر فهو أن مصدر الحياة الأرقى كان هو الدماغ، وأنه هو الذي يفرز ما يميز الإنسان من إدراك وفكر ومشاعر، كما تفرز الكبد الصفراء والكلى البول، فلما مات الدماغ ذهبت تلك الحياة المميزة للإنسان، وهذا يقتضي أن التطور الذي يطرأ على الجنين ويكسبه مؤهلات تميزه عن غيره هو اكتمال دماغه، وليس خلق حياة جديدة في بدن الجنين.
وأساس هذا الاحتمال أن الأنشطة الإنسانية المتميزة إنما يقترن تخلفها مع تعطل الدماغ، وأن عجز الأعضاء وأجهزة الجسد الآدمي يقع دائما عند انقطاع صلتها بدماغ حي.
والجواب عن هذا الاعتراض أن مبناه - كالاحتمال الأول - على الإقرار بأن حياة الجنين تبدأ عند تكونها مجردة من المصدر الذي تصدر عنه حياة الفكر والإرادة؛ لأنه ينسب هذه الحياة العاقلة للدماغ، والدماغ، كما هو معلوم عند أهل الاختصاص، لا يتكون مع الجنين من أول لحظة، وإنما يبدأ تكونه بعد تلقيح البييضة بأسابيع، ويكتمل في الأسبوع الثاني عشر (١)
والمادة التي يتكون منها الدماغ هي عين المادة التي تنشاً منها بقية أعضاء الجسد. ونوع الحياة الذي يتسبب في نشوء الجميع واحد؛ فإن أصل الجنين خلية واحدة، تنقسم وتنقسم أقسامها وأقسام أقسامها ... وهكذا، ثم يحدث تخلق الأعضاء من تكتل الخلايا الناتجة عن عمليات الانقسام، وبفعل عمليات حيوية متعددة فإذا كان الأمر كذلك فإن هذا يقتضي أن تكون الوظائف التي تقوم بها مختلف أعضاء الجسم من جنس واحد، وإن اختلفت تخصصاتها، وهي وظائف غير إرادية ولا فكرية، لأنها كلها نشأت من أصل واحد، هو الخلية الأولى والخلايا المتولدة منها، وهذا الأصل الذي نشأت منه جميع الأعضاء مجرد عن الفكر والإرادة، كما يقضي به احتمال المعترض، ويستحيل بحسب سنن الكون وموجوداته أن يتولد بصورة آلية المريد من غير المريد، والمفكر من غير المفكر. وإنما يتصور ذلك عندما يضاف إلى المتولد المجرد عن الفكر والإرادة مصدر آخر مريد ومفكر بذاته، وذلك بتدخل خارجي. ولا يتصور أن يكون المتدخل هنا سوى الله عزوجل؛ فإنه سبحانه هو المختص بالخلق المباشر، ولا يقدر على ذلك سواه، ومع هذا اللزوم يتحول الاحتمال الذي أورده المعترض إلى احتمال قريب من الاحتمال الآخر ومؤكد له.
(١) انظر بحث الدكتور مختار المهدي "بداية الحياة الإنسانية" ضمن أبحاث ندوة الحياة الإنسانية ": بدايتها ونهايتها في المفهوم الإسلامي ص ٦٧ - ٦٩.