وهذه المعارف الشرعية لا تتعارض مع معارف أهل الصنعة التي حصلوها بالتجربة والحس والمشاهدة فلا يقتضي التسليم بإحداهما نفي الأخرى؛ فإن التسليم بتطور الجنين في عناصره المادية المحسوسة لا ينفي تطوره باستقبال عنصر روحاني لطيف في فترة من فترات قراره داخل الرحم. فموضوع كل من النوعين السابقين من المعارف يختلف عن الآخر، ووجهة البحث في كل منهما مختلفة، وكذلك وسائل تحصيلها (١)
وإذا تبين أن وسائل العلم المادية لا تستطيع أن تدرك من نوعي التطور الذي يقع على الجنين سوى النوع الأول، فإنها أيضاً لا تستطيع أن تنفي وقوع التطور الآخر الذي أخبر عنه الرسول صلى الله عليه وسلم بنفخ الروح في الجنين؛ لأن وسائل تحصيل المعرفة لا يقتصر على التجربة والمشاهدة، فإن هذه إحداها، والاقتصار عليها في إثبات الموجودات يعد قصوراً في البحث، وبخاصة إذا كان المبحوث عنه أمراً لا يحس ولا يشاهد. وإن من وسائل المعرفة التي لا ينكرها العقلاء الخبر الصادق عمن عنده علم عن الموضوع محل البحث، والمحاكمة العقلية السليمة التي قد تنطلق من المشاهد المحسوس، وقد تنطلق من الخبر الصادق أيضاً؛ وقد أشار كتاب الله تعالى إلى هذه الوسائل المعتبرة في الوصول إلى الحقائق والمعارف في قوله عز وجل:{إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا}[سورة الإسراء: الآية ٣٦] ؛ فأشار سبحانه إلى تلك المصادر بذكر آلاتها التي رزقها للإنسان من أذن تسمع وعين ترى وفؤاد يعقل.
(١) المطالب القدسية في أحكام الروح وآئارها الكونية - الشيخ مخلوف ص ٩٥.