للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

المطلب الثالث

التطور الذي يغير حقيقة الجنين هو نفخ الروح

لا شك في أن حقيقة كل مخلوق تتحذ بما يتميز به ذلك المخلوق عن غيره من القوى والملكات والخصائص الذاتية التي توجد فيه ولا توجد في سواه، وأما ما يشترك به مع المخلوقات الأخرى من تلك القوى والخصائص فلا يحدد حقيقته؛ وفي ذلك يقول ابن مسكويه: (كل موجود من حيوان ونبات وجماد ونار وهواء وأرض وماء وأجرام علوية له قوى وملكات وأفعال بها يصير ذلك الموجود هو ما هو وبها يميز عن كل ما سواه. وله أيضاً قوى وملكات وأفعال بها يشارك ما سواه. ولما كان الإنسان من بين الموجودات كلها هو الذي يلتمس له الخلق المحمود والأفعال المرضية، وجب أن لا ننظر في هذا الوقت في قواه وملكاته وأفعاله التي بها يشارك سائر الموجودات؛ إذ كان ذلك من حق صناعة أخرى وعلم آخر يسمى العلم الطبيعي، وأما أفعاله وقواه وملكاته التي يختص بها من حيث هو إنسان وبها تتم إنسانيته فهي الأمور الإرادية التي بها تتعلق قوة الفكر والتمييز ٠٠٠) (١)

ولذلك فإن العلماء المسلمين يرون أن حقيقة الإنسان لم تتحدد بهيكله المخصوص بما يحتوي عليه من عناصر مادية وما يتكون منها من أعضاء وأجزاء. وإنما تحددت بروحه التي نفخت فيه والتي هي مصدر إرادته وقوته العاقلة؛ يقول الشيخ مخلوف: (على أن حقيقة الإنسان هي النفس الناطقة المتعلقة ببدنه تعلق التدبير والتصرف (٢) والهيكل المخصوص خارج عن حقيقته، فلو وجدت الروح الإنسانية الناطقة في حيوان لما كان حيواناً، بل كان إنساناً في صورة حيوان. والنفس الإنسانية من أخص أوصافها النطق الفكري الذي يتأهب الإنسان به إلى النطق البياني، ويخوض به غمار البحث عن حقائق الأشياء وأحوالها ليتكمل به علما وعملاً، وذلك ليس بموجود في الحيوان مهما اهتدى إلى أي عمل من الأعمال) (٣)


(١) تهذيب الأخلاق: ص. ا. وانظر قريباً من هذا المعنى عند الغزالي في معارج القدس: ص ١٧.
(٢) لا نظن أن الشيخ يقصد بهذا أن مسمى الإنسان هو الروح فقط دون بدنه، وإنما يعني أن العنصر الأهم من الإنسان هو روحه التي تميزه عن سائر أنواع الحيوان، وإلا فإن بدن الإنسان متميز أيضاً عن بدن الحيوان. ولكن هذا التميز ليس في حقيقة العناصر والمواد التي يتكون منها بدن الاثنين، ولكن في تصويرها وتسويتها؛ فقد صورها الله في بدن الإنسان أحسن تصوير، وجعله في أحسن تقويم؛ لأن هذا البدن بالذات صنعه ربه ليكون آلة للروح ومركباً لها، وقد أجرى الله العادة بلا استثناء أن الروح الإنسانية لا تسكن إلا ذلك البدن المهيأ لها، ولا تركب غيره. وهذا التميز في التصوير البدني يستحق أن يلاحظ عند تعريف الإنسان أو عند البحث عن مسماه، كما ينبغي أن يلاحظ ذلك الجمع المعجز الذي جمع به بين الروح والبدن مما لا يوجد مثيله في غير الإنسان، فالحق أن الإنسان هو المجموع الحاصل من الروح والبدن، وهذا ما عليه الجمهور انظر كتاب الروح لابن القيم: ص ٢٤١. ومع ما تقدم فإن المميز الأول للإنسان يظل ما أسكن فيه من روحه التي هي مصدر جميع ما يختص به من الآثار الخارجية.
(٣) المطالب القدسية: ص ١٩، وقد أشار إلى هذا المعنى ابن مسكويه فيما تقدم نقله عنه، والغزالي في معارج القدس: ص ١٧، وابن القيم في كتاب الروح: ص ٢٦١، والفخر الرازي في التفسير الكبير: ١ ٣٩/٢، ٤٣،؛ فقد ذكر سبع عشرة حجة على ان حقيقة الإنسان هي روحه وليست جثته. ويقول سيد قطب في ظلال قوله تعالى: {ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ} : (هذا هو الإنسان ذو الخصائص المتميزة، فجنين الإنسان يشبه جنين الحيوان في أطواره الجسدية، ولكن جنين الإنسان ينشأ خلقاً آخر، ويتحول إلى تلك الخليقة المتميزة المستعدة للارتقاء، ويبقى جنين الحيوان في مرتبة الحيوان مجرداً من خصائص الارتقاء والكمال التي يمتاز بها جنين الإنسان. إن الجنين الإنساني مزود بخصائص معينة هي التي تسلك به طريقه الإنساني فيما بعد، وهو ينشاً خلقاً آخر في آخر أطواره الجنينية، بينما يقف الجنين الحيواني عند التطور الحيواني لأنه غير مزود بتلك الخصائص، ومن ثم فإنه لا يمكن أن يتجاوز الحيوان مرتبته الحيوانية، فيتطور إلى مرتبة الإنسان تطوراً آلياً – كما تقول النظريات المادية – فهما نوعان مختلفان، اختلفا بتلك النفخة الإلهية التي بها صارت سلالة الطين انساناً، واختلفا بعد ذلك بتلك الخصائص المعينة الناشئة من تلك النفخة، والتي ينشاً بها الجنين الإنساني خلقاً آخر. إنما الإنسان والحيوان يتشابهان في التكوين الحيواني، ثم يبقى الحيوان حيواناً لا يتعداه، ويتحول الإنسان خلقاً آخر قابلاً لما هو مهيأ له من الكمال بواسطة خصائص مميزة وهبها الله له عن تدبر مقصود لا عن طريق تطور آلي من نوع الحيوان إلى نوع الإنسان) - في ظلال القرآن: ٢٤٥٩/١٨.

<<  <  ج: ص:  >  >>