حكم التعاقد بالكتابة: لا خلاف في الجملة في جواز التعاقد عن طريق الكتابة وما في معناها، والنقول معروضة بين أيديكم وأكتفي بذكر بعضها:
قال المالكية: إن البيع ينعقد بما يدل على الرضى من المتعاقدين من قول منهما أو فعل أو قول من أحدهما وفعل من الآخر أو إشارة منهما أو من أحدهما وقول أو فعل من الآخر. (شرح الخرشي على خليل ٥/٥ بحاشية العدوى) .
وكذلك الحنفية قالوا: إن التعاقد عن طريق الكتابة ومثلوا له بقولهم: أن يكتب شخص إلى آخر: أما بعد، فقد بعت منك كذا بكذا، فبلغه الكتاب فقال في مجلسه: اشتريت. انعقد العقد بينهما ويكون كأن الموجب حضر بنفسه وخاطب الآخر بالإيجاب وقبل منه الآخر في المجلس. وقال ابن عابدين: ويكون بالكتابة من الجانبين فإذا كتب: اشتريت كذا بكذا، فكتب إليه البائع: قد بعتك. فهذا بيع، كما في التترخانية.
قال: وقوله: فيعتبر مجلس بلوغهما، أي بلوغ الرسالة أو الكتابة. ونقل عن المبسوط: ينعقد سائر التصرفات بالكتابة أيضًا.
وتجدر الإشارة إلى أن الحنفية قد أوردوا رأيًا آخر قاسوا فيه البيع على النكاح في انعقاده في مجلس آخر.
وهنا مسألة تجدر الإشارة إليها وهي هل يجوز للموجب أن يرجع عن إيجابه؟ قالوا: لو كتب شطر العقد ثم رجع صح رجوعه. فها هنا أولى. وكذا لو أرسل رسولا ثم رجع، لأن الخطاب بالرسالة لا يكون فوق المشافهة، وذا محتمل الرجوع فها هنا أولى. ولكنهم اشترطوا في الرجوع بأن لا يصل كتابه إلى المكتوب إليه، ولم يشترطوا لصحة الرجوع علم الآخر به. وقالوا: لا يصح الرجوع بعد قبول المكتوب إليه لأن العقد قد تم وخرج الأمر من يد الكاتب. وكذلك الحكم في الرسول.
أما المالكية فإنهم يقولون: إن الإيجاب ملزم للموجب وليس له الرجوع عنه. وعلى ذلك يتم العقد بمجرد إعلان القبول على هذين المذهبين. وهما لا يقولان بخيار المجلس، فليس لهما بعد ذلك حق في الرجوع.
أما الشافعية فقد اشترطوا أن يقبل المكتوب إليه بمجرد اطلاعه على الكتاب، في الرأي الأصح عندهم. وفي وجه ضعيف أنه لا يشترط القبول بل يكفي التواصل اللائق بين الكتابين.
حكم الخيار في التعاقد بين الغائبين: قال الغزالي: إذا صححنا البيع بالمكاتبة، فكتب إليه فقبل المكتوب إليه ثبت له خيار المجلس ما دام في مجلس القبول، قال: ويتمادى خيار الكاتب إلى أن ينقطع خيار المكتوب إليه، حتى لو علم أنه رجع عن الإيجاب قبل مفارقة المكتوب إليه مجلسه صح رجوعه ولم ينعقد البيع.
وقال في حاشية الجمل: لا ينقطع خيار كل منهما إلا بإلزامه العقد أو مفارقة المجلس نفسه. ومجلس الكاتب هو الذي كان فيه عند قبول المكتوب إليه وأوله من حين القبول.