للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ثم لو قلنا بالتفرّق بالأبدان في (خيار المجلس) فما هو الحكم فيما إذا كان أحد المتبايعين قد ألزم نفسه أثناء اتصاله بصاحبه عن طريق أحد الأجهزة المشار إليها آنفًا أو ما شاكلها بسعر معين بيعًا أو شراء وبمواصفات معينة أيضًا للسلعة المباعة أو المشتراة وقبل أن يتلقى جواب صاحبه بالقبول – وهذا يتبين جليًّا في التعامل بآلات النقل والتصوير الكهربائي – تلقى بواسطة جهاز آخر إشعارًا عن تغيّر السعر في السوق إمّا سعر السلعة أو سعر العملة المتبايع بها، في حين أنَّ صاحبه قد قبل فعلا وهو بصدد إرسال الإجابة بالقبول أو لم يجب بعد في حالة التعامل بالأجهزة الصوتية لأنه استطرد في حديث آخر مع صاحبه، فهل يكون لهذا الذي تلقّى إشعارًا بتغيّر السعر في السوق أن يسحب موافقته بعد أن قطع بها على نفسه عهدًا وقبل بها صاحبه وإن لم يبلغه قبوله بعد؟ وفي هذه الحال أفلا يكون في ذلك إخلال بما أمر الله سبحانه وتعالى به من الوفاء بالعقود؟! وهل يجدي في تسويغ هذا الإخلال التشبث بحكاية التفّرق بالأبدان لو حاولنا تكييفها بحيث تنطبق أيضًا على هذا النوع من المعاملات التي تقع بين متباعدين اثنين أو أكثر، وفي هذا العصر الذي أصبح (الحسيب) (١) وفيه يقوم مقام المتعاملين أو المتعاملين الكثر وينجز العمليات التجارية في لحظات؟ ما موقع التفرّق بالأبدان من عملياته؟ وفي هذا العصر الذي تهيمن فيه أسواق الأوراق المالية مسيّرة بـ (الحسيب) خاضعة لسيطرته على مختلف أنواع المعاملات المالية وخاصة النقدية منها، إذ لم يعد النقد معدنًا أو مادة يتعامل بها لذاته بل أصبح اعتباريًّا وشبه وثائق تقديرية لقيم يتعامل بها وهميًّا. وقد يتغير سعر العملة من تلك التي يتعامل بها عالميًّا أكثر من مرة في الدقيقة الواحدة كيف يستقيم (خيار المجلس) على أساس التفرق بالأبدان أساسًا للمعاملات دون أن يحدث اضطرابًا وفوضى لا حدود لهما تختل بهما جميع العمليات المتداولة بين الناس والمتوقف عليها حياتهم المعاشية والحضارية؟!

لا نريد أن نستبق مسار البحث فنبلغ إلى غايته قبل نهايته إن نريد إلا أن نرسم معالم النهج الذي يتعين – ولا يصلح غيره – لفهم النصوص التشريعية لاسيما ما يتصل منها بالمعاملات وبعبارة عامة ما ليس منها تعبديًّا صرفًا ذلك بأنَّ الظروف التي كيفت أفهام ابن عمر والشافعي ومن نحا نحوهما لحديث الخيار ولمعنى عبارة التفرّق والافتراق منه قد تكون مسوّغة لذلك النوع من الفهم لعهدهما لكن لا سبيل إلى اعتبارها ولا إلى اعتبار الفهم المتكيف بها في حال تغيرت فيه جوهريًّا طرائق الحياة وأساليب التعامل بين الناس.


(١) وهو الاسم الذي نفضله لـ (الكومبيوتر) بدلا من (الحاسوب) الذي شاع إطلاقه عليه لأنه أحق في التعبير عن طبيعة هذا الجهاز من كلمة (الحاسوب) التي تحصر طبيعته في الحساب ووظيفته في المحاسبة.

<<  <  ج: ص:  >  >>