وهذا الوضع الحضاري السائد يومئذ ما لبث أن تغير إذ ضولت عمليات المقايضة في المعاملات وساد التعامل بالنقد وتقلص العمل بالوزن لانتشار العملة المسكوكة وقل في الفترة الأولى - بصورة ظاهرة - وجود الزيف في العملة المسكوكة لكثرة الذهب والفضة في أيدي الناس ولشدّة رقابة الدولة الأموية على سك النقود واحتكارها الذي يكون تامًا له، كما تغيرت أساليب التجارة تدريجيًّا باتساع رقعة الدولة الإسلامية واشتداد قوتها وتمكنها اشتدادا جعل الدول الأخرى ترغب رغبة أكيدة متزايدة في التعامل معها تصديرًا واستيرادًا.
وكان من أئمة الفقه من اتخذ من التجارة مصدرًا لمعاشه ومنهم مالك بن أنس – رحمه الله – ونتيجة لذلك اتسع أفق الفهم لديه فاستقر على أنَّ الصفق وتبادل الأثمان والسلع هو التفرّق أو الافتراق المراد من الحديث، فكانت مقولته التفرّق بالأقوال.
والذي يعنينا من هذه القضية ما أصبح عليه التعامل يومئذ بين الناس من الاتساع والتنوع بحيث انحسر وكاد ينعدم التعامل مواجهة في المعاملات الكبرى، بل أخذ ينحسر حتى في المعاملات الصغرى، وساد بين الناس التعامل - حتى في المدينة الواحدة والحي الواحد- بالهاتف، وخارج المدينة والحي كان بالبرق ثم أصبح – إلى جانب الهاتف الصوتي – بالوثائق المتناقلة كهربائيًّا (تلكس – TELEX) ، والمصورة هاتفيًّا (تلفاكس – TELEFAX) ، بل قد أخذت تظهر وسيلة جديدة يوشك أن تقضي على الهاتف الصوتي المجرد وهي (الهاتف المرئي –TELECOME) ، أي الذي ينقل لكل من المتخاطبين – مع صوت مخاطبه – صورته، وفضلا عن ذلك أخذ ينتشر الهاتف المشترك وهو الذي يتيح لعدة أفراد أماكن مختلفة وقد يكونون في قارات مختلفة أن يتخاطبوا جميعًا في حالة واحدة كما لو كانوا في مجلس واحد متجاورين أو متواجهين.
فما حكم الشريعة الإسلامية في هذه الأنواع من المعاملات؟ هل تعتبر داخلة في نطاق (خيار المجلس) ؟ وإذن فعلى قول القائلين بالتفرّق بالأبدان كيف يتمّ هذا التَّفرُّق. هل يكون على أحد المتخاطبين أن يضع سمّاعة الهاتف الصوتي أو الهاتف المصور؟ أو أن ينصرف عن (الهاتف المصور للوثائق - TELEFAX) ، أو عن (الجهاز الناقل كهربائيًّا للمراسلات - TELEX) ؟ وإذن فكيف يتسنى المخاطبة أن يتبين أن صاحبه قد غير مجلسه فمشى خطوات فقطع عليه بذلك حق الخيار أو الاستقالة؟