وفيما يلي نتبين تأثير التغير الحضاري في تصورات ومقولات السلف الأول في الجانب المتصل بالعقود من تشريعات المعاملات والأحوال الشخصية.
لعل من أبرز ما يجلو تأثير المقتضيات الحضارية في فهم النصوص وفقه ما جاءت به من تشريع قضية (خيار المجلس) ومصدرها وما سقناه في الفصل الخامس من حديث ابن عمر وحكيم بن حزام وأبي هريرة وغيرهم، وفيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:((البيعان بالخيار ما لم يتفرقا)) وما شاكل ذلك من ألفاظ، فقد وقف ابن عمر – رضي الله عنه- عند لفظه فكان إذا صفق بيعًا مع مشترٍ قام فمشى خطوات ثم عاد إلى مجلسه ليكون بذلك فارقه فتم العقد، وعللوا ذلك فيما جاء في بعض روايات الحديث من أنَّ عدم الافتراق قد يوجب على المتبايعين أن يقيل أحدهما صاحبه إذا استقاله، وحاول ابن حجر في التلخيص مناصرة لمذهبه أن يعتذر لابن عمر بقوله [٢/٢٠، ح١١٨٢] :
لم يبلغ ابن عمر النهي المذكور فكان إذا بايع رجلا فأراد أن يتم بيعه قام فمشى هنيهة ثم رجع إليه. انتهى كلام ابن حجر.
وهو اعتذار عجب كما ترى ليس لأن ابن عمر لم يكن يقصد إلى معنى هذا الاعتذار، بل لأن ابن حجر جاء بعد ثمانية قرون ليدعم موقف الشافعي إمامه من قضية (خيار المجلس) ، إذا كان شديد التشبث – كما بينا في الفصل الخامس – بمقولة التفرق بالأبدان باعتباره شرطًا لانعقاد البيع وانتهاء حق المتبايعين في الخيار ما لم يشترطه أحدهما.
ومرد فهم ابن عمر ومن سار مساره ومنهم الشافعي لهذا النص إلى أنهم كانوا في ذلك العهد ومن قبله لا يعرفون في التجارة إلا التعامل المباشر سواء كان أساسه مقايضة أو ثمنًا، وكان الثمن نفسه يشبه المقايضة في الجزيرة العربية وفي غيرها من الأقطار التي لم تكن تسلك النقود بل كانت تستوردها أو تتعامل بمعدنيها وزنًا، وفي كلتا الحالتين كان لخيار المجلس معناه باعتبار التفرق تفرق أبدان لأن التصافق – وهو صيغة إتمام البيع عندهم يومئذ – على معاملة أساسها المقايضة قد يتم بسرعة يتعذر معها استكناه كلتا السلعتين المقايض بهما استكناهًا يستحيل معه خفاء ما يكون في إحداهما أو فيهما معًا من عيب، ولأن اضطراب أسعار العملة المسكوكة وأسعار الذهب والفضة الموزونين كل منهما بالنسبة إلى الآخر تبعا لتقلبات السوق الناتجة عن الطوارئ غير المقدر لها، ثم ما يكون أحيانًا في الدرهم أو الدينار من زيف كثير أو قليل بل وحتى في معدني الذهب والفضة نفسيهما، كل ذلك يسوغ فهمهم يومئذ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:((ما لم يفترقا)) أو ((ما لم يتفرقا)) على أنه افتراق أو تفرق بالأبدان، فما دام المتبايعان معًا في مجلسهما فقد يشعر أحدهما بالغبن لِمَا يكتشف من زيف أو نقص في وزن الدرهم أو الدينار أو لِمَا يطرأ على أحد النقدين من انخفاض أو ارتفاع فيحاول التحلل من صفقة بالاستقالة أو بدعوى عدم انعقاد البيع، ولذلك وقر في فهمهم من رأى التفرق بالأبدان أنَّ الافتراق والتفرّق الوارد في الحديث أراد أن يحسم مثل ذلك الاحتمال بابتعاد أحد المتبايعين عن الآخر، وإن بضع خطوات إنهاء لعملية المبايعة.