حدثنا محمد بن عبد الله بن نمير، وساق مثل الحديث السابق سندًا ولفظًا سواء. . ونشأ بعضه من حال حضارية كانت سائدة عندهم فوقفوا عند مقتضياتهم في تكييف مفاهيمهم للنصوص.
ولو قد مضينا نتقصى مقولات الفقهاء والمتفقَّهة في مجالات العقود لملأنا مجلّدات من أعاجيبها وهي جميعًا – على تغاير وتعارضها وأحيانًا على تناقضها – لتكاد تخرج عند التمحيص عن هذين السببين اللذين ألمعنا إليهما إلا ما كان تمحّلات المقلدة الذين واجهتهم بعض التغيرات الحضارية، وقعد بها التقليد عن تجاوز مقولات أسلافهم والرجوع إلى نصوص القرآن والسنة لقراءتها وفهمها من جديد، فطفقوا يبدءون ويعيدون في تيه فقهي عجيب لا يكادون يجدون منه منفذًا، فكان أن تراءى للمحدثين من الراغبين في المواءمة بين الشريعة الإسلامية ومقتضيات الحضارة المعاصرة كما لو كان التشريع الإسلامي يعسر التوفيق بينه وبينها لأنهم حسبوا أنّ مقولات المقلدة من متفقهة عهود التحجر الواقفين أنفسهم في ما أرهقوها بوضعه من الشروح والحواشي والتقارير على ألوان من التمحلات تقديسًا لمقولات أسلافهم وجمودًا لها واعتبارًا لها مقدمة على نصوص الكتاب والسنة كما لو كان فهم تلك النصوص مقصورًا على السلف الأول محظورًا على غيره ممن يأتي بعدهم. أقول لأنَّ المحدثين حسبوا أن هذه المقولات هي لب الفقه الإسلامي وخلاصته وصفوته، فوقف جلهم عندها يحاولون هم أيضًا أن يجدوا سبيلا إلى التوفيق بينها وبين ما يعايشونه من أحوال حضارية وضرورية وحاجية محاولة كثيرًا ما أعجزتهم فاستسلموا وقليل منهم من اكتشف الواقع المرّ لتلك المقولات فتجاوزها باحثًا عن حقيقة التشريع الإسلامي في نصوص الكتاب والسنة، مسترشدًا بالقلّة النادرة من الفقهاء الموفقين أمثال الشاطبي وابن تيمية وابن القيم ومحمد الطاهر بن عاشور، أولئك الذين استطاعوا أن ينفذوا ببصائرهم إلى سرائر التشريع الإسلامي وأن يحكموا في استفقاههم له مياسم المناط وملامح الحكمة، وبذلك رسموا نهجًا نيرًا انفردوا به فجاء متكاملا عجبًا من التوفيق والسداد لما ينبغي أن يتخذ نبراسًا لتفهم الشريعة الإسلامية والتوفيق بينها وبين مقتضيات الحضارة مهما تطورت وتغايرت أوضاعها ومستلزماتها.