للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

صُور القبض المعاصرة

قبل أن نخوض في تفصيلات هذه الصور المعاصرة للقبض يمكننا أن نضع لها ضابطة وهي أن مبنى القبض وأساس مسائله وصوره قائم على العرف، حيث إن الشرع أطلقه فيكون الرجوع فيه إلى العرف، ومن هنا فكل ما عدّه العرف قبضًا في أي عصر من العصور فهو قبض، ما دام لا يصطدم مع نص شرعي ثابت صريح، وكذلك لا يجب الالتزام بجزئيات القبض وصوره في عصر ما بالنسبة للعصر الذي يليه ما دام العرف قد تغير، لأن ما هو مبني على العرف يتغير بتغيره، يقول العلامة ابن القيم: "... فمهما تجدد في العرف فاعتبره، ومهما سقط فألغه، ولا تجمد على المنقول في الكتب طول عمرك، بل إذا جاءك رجل من غير إقليمك يستفتيك فلا تجره على عرف بلدك، وسله عن عرف بلده فأجره عليه، وأفته به دون عرف بلدك، والمذكور في كتبك" ثم نقل عن المحققين من العلماء قولهم "فهذا هو الحق الواضح، والجمود على المنقولات أبدًا ضلال في الدين، وجهل بمقاصد علماء المسلمين والسلف الماضين ... وما جرت به العادة ... واشتهر ذلك عند الناس بحيث صار عرفًا متبادرًا إلى الذهن من غير قرينة ... حمل عليه ... ومن أفتى الناس بمجرد المنقول في الكتب على اختلاف عرفهم وعوائدهم وأزمنتهم وأحوالهم وقرائن أحوالهم فقد ضل وأضل، وكانت جنايته على الدين أعظم من جناية من طبّب الناس كلهم على اختلاف بلادهم وعوائدهم وأزمنتهم وطبائعهم بما في كتاب من كتب الطب على أبدانهم، بل هذا الطبيب الجاهل، وهذا المفتي الجاهل أضر على أديان الناس وأبدانهم والله المستعان" (١) .

وقد أكد على مثل ذلك العلامة ابن عابدين في رسالته القيمة فقال: "اعلم أن اعتبار العادة والعرف رجع إليه في مسائل كثيرة حتى جعلوا ذلك أصلًا، فقالوا تترك الحقيقة بدلالة الاستعمال والعادة ... وقال في القنية: ليس للمفتي ولا للقاضين أن يحكما على ظاهر المذهب ويتركا العرف" بل ذكر أن النص المبني على اعتبار عرف ما مثل النصوص الواردة في اعتبار الحنطة والشعير ونحوهما من المكيلات لا يدل على عدم جواز بيعها بالوزن إذا تغير العرف وأصبحت تباع بالوزن أيضًا "فالنص في ذلك الوقت إنما كان للعادة ... فإذا تغيرت العادة تغير الحكم – أي هذا الحكم الجزئي – فليس في اعتبار العادة المتغيرة الحادثة مخالفة للنص، بل فيه اتباع النص" (٢) .


(١) نقلت ذلك مع طوله لأهميته ولا سيما في موضوعنا هنا. إعلام الموقعين عن رب العالمين، ط. عبد السلام شقرون بالقاهرة: ٣/٧٨.
(٢) نشر العرف في بناء بعض الأحكام على العرف، ضمن رسائل ابن عابدين، ط. آستانة: ٢/١١٥-١١٨.

<<  <  ج: ص:  >  >>