وهذا هو المنهج الذي اتخذه فقهاء الإسلام من بعد، فهم ينظرون إلى النصوص بعقل مفتح ويتبعون عمل الصحابة أولا، وما أصله المجتهدون ثانيًا، وبذلك برهنوا على أن هذه الشريعة المحمدية بما تحتوي عليه من مبادئ وأصول وقواعد وحكم قابلة للتطبيق في كل عصر وفي كل مصر مستوعبة لكل ما يجدها ضامة لكل ما يحدث بما اشتملت عليه من مراعاة المصالح ودرء المفاسد فكانت بذلك صالحة لعلاج كل مشاكل الزمان وما يحل من الحوادث في كل آن بحيث لا يحتاج العالم الإسلامي إلى تحكيم القوانين الأجنبية وما سطرته وقررته القوانين الغربية، ولا شك أن من بين القواعد العامة التي انبت عليها الأحكام في القديم والحديث العرف الذي يتفق مع ملابسات الناس ومقتضيات الزمان ويمد الفقهاء والعلماء بالأحكام المناسبة لعصرهم والملائمة لمقاصد الناس وتصرفاتهم حسب ما تقتضيه الشريعة، وإن ما ذكرنا عن العرف هو دراسة توضح مدلوله وتبين قواعده وأصوله شاملة أن شاء الله لأنواعه وشروطه ومدى طموحيته في استنباط الأحكام والاعتداد به وحجيته والعلاقة بينه وبين غيره من المصادر ومنزلته بينها بالنظر إلى الاستنباط والتطبيق ومعارضته للنصوص وموافقته لها وفي سبيل هذه الحقيقة بينا حقيقة العرف لغة واصطلاحًا بطريقة توضح العلاقة بينه وبين العادة وبين ما جرى به العمل، وقد أشرنا إلى الأدلة الشرعية التي تثبت حجيته من الكتاب والسنة وفعل الصحابة والتابعين والأئمة المجتهدين وأخذ كل الأئمة به والاعتماد عليه وحتى إذا ما كان هناك خلاف بين الأئمة، فليس في أصل اعتباره وإنما هو في مدى اعتباره توسعًا وتضييقًا، وقد بينا سلطان العرف في العهود القديمة وارتكاز القوانين عليه من عهد الرومان، ثم أوضحنا بناء القوانين الفرنسية عليه وما طرأ في ذلك من تغير، وأوضحنا نظر الشرع إليه من لدن عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعصر الصحابة والتابعين والأئمة المجتهدين في كل عصر ومصر وهو مازال معتبرا إلى الآن إذ هو منار للباحثين واستخراج الأحكام واستنباطها من أصولها وقواعدها، وقد قسمناه إلى عام وخاص باعتبار شموله ونصوصه وإلى ما كان يرجع إلى العرف القولي والعرف الفعلي العملي وإلى ما يوافق النصوص وإلى ما يعارضها وإلى ما يخالفها، وإلى ما يصلح أن يكون مخصصا للعام، ومقيدا للمطلق وإلى ما يجب إلغاؤه وما يجب اعتباره باعتبار ما يكون مناقضًا لما جاءت به الشريعة الإسلامية من أصول ومبادئ وما لا يكون مناقضا لذلك وكون الأول فاسدا يجب إلغاؤه، وكون الثاني صحيحا يجب اعتماده واعتباره، ثم فرقنا بين العرف وبين العادة وأوضحنا ذلك بما يكون للعرف من قوة الإلزام والنفوذ والاعتبار وأنه لا يكون بهذه المثابة إلا إذا توفرت فيه شروط بها يكون اعتباره وهي اطراده وغلبته وعدم مخالفته للنصوص والمقاصد وأثبتنا مظاهر عمومه في الحياة من حيث الدين والأخلاق والتجارة والمعاملات وأن الإسلام أقر ما هو صالح وعدل ما هو قابل للتعديل وأبطل ما كان فاسدًا، ثم أوضحنا أن العرف كالعلة في بناء الأحكام عليه وأن الحكم يدور معه وجودا وعدما حيث إن العادات تتغير وتتبدل وإن الأحكام تتغير بتغيرها وأوضحنا أن مرجع العرف إلى المصلحة وحيث كان راجعًا إليها كان في مرتبتها وليس بعد كتاب الله وسنة رسوله إلا المصلحة ودرء المفسدة ولما تعرضنا لعلاقة العرف بالعمل تعرضنا بإسهاب إلى التعريف بعمل أهل المدينة ودليل حجيته ونظرة الفقهاء إليه ونبهنا إلى ما قصد إليه مالك من عمل أهل المدينة وقسمنا هذا العمل إلى درجات مختلفة.