إن من ألقى نظرة خاطفة على التشريع الإسلامي يلمس صلاحيته لكل زمان ومكان بما فيه من مرونة تكسبه تطورًا ونماء مدى الزمان من بداية عصر الرسالة والعصور اللاحقة له من عصر الصحابة والتابعين والأئمة المجتهدين، وإننا لنلاحظ البون الشاسع بين ما كان عليه التشريع في العصر الأول والحالات اتي استقر عليها بعد ذلك وما ذلك إلا لاختلاف الحياة التي كان يحياها رسول الله صلى الله عليه وسلم والصحابه معه والحياة التي عاشها المسلمون من بعد، وقد امتدت رقعة الإسلام وشملها حكمه وامتد إليها سلطانه، فقد كانت حياته صلى الله عليه وسلم في شبه الجزيرة العربية، وكان المسلمون في ذلك الزمان قلة ولم تختلف عاداتهم وأعرفهم وتقاليدهم إلا ما كان من اختلاف يسير بين مكة والمدينة وقد لاحظه التشريع فأعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم لكل بيئة ما يناسبها من الأحكام، فلم يكن أهل مكة يتعاملون بعقد السلم في حين أن أهل المدينة كما رواه الشيخان يتعاملون به، فأقرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على هذه المعاملة مراعيًّا في ذلك عرفهم وعاداتهم وينتشر الإسلام في مشارق الأرض ومغاربها وتفتح بلاد الروم وفارس ومصر وأفريقية وتظهر عادات وتقاليد جديدة وقوانين متنوعة قد كان لها أثر وأي أثر في اختلاف الرأي واختلاف التفكير والنظر، وقد طرأت حوادث ونوازل لم تكن في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي تحتاج إلى تشريعات وأحكام وكان الحكام والمفتون مدعوين إلى استنباط أحكامها وإبراز تشريعاتها بما يوافق عادات الناس وأعرافهم التي تختلف باختلاف الأقليم والجهات بما يوافق مقاصد الشريعة ولا ينقاض أصولها وقواعدها، ذلك أن الشريعة الإسلامية كاملة عامة لكل أمور الدين والدنيا من عبادة ومعاملة وقد أصلت كل الأصول وقررت كل المقاصد وأوضحت كل المبادئ وتركت التفاصيل والجزئيات للقائمين على تنفيذ هذه الشريعة ويستلهمون من روحها ويستنبطون من قواعدها وأصولها ما ليس في نصوصها، وقد أشار رسول الله صلى الله عليه وسلم لهذا المعنى ولهذه الحقيقة حين قال صلى الله عليه وسلم للصحابة:((أنتم أعلم بأمور دنياكم)) وفي قوله هذا إذن في الاجتهاد فيما يتصل بشئون الحياة والمعاملات التي تتجدد وتتكاثر وتتغير بحسب الزمان والمكان والتقدم والحضارة، لذا نرى الصحابة رضوان الله عليهم ومن بعدهم من التابعين وتابعيهم لم يقفوا من القضايا التي نزلت والأحداث التي حلت موقف العاجز المضطرب، بل اجتهدوا رأيهم وأعملوا فكرهم وأعطوا حكم كل قضية نزلت وحكم كل مسألة حلت من الحوادث والنوازل التي طرأت انطلاقًا من النصوص والقواعد والمقاصد.