للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ولقد انبتت عقوبات قررها الولاة والقضاة لذنوب مستحدثة وقد قال عمر بن عبد العزيز: تحدث للناس أقضية بقدر ما أحدثوا من الفجور. وهذه كلها معتمدها العرف ومراعاة أحوال الجاني والمجني عليه ونوع الذنب المرتكب ومن هذا القبيل العزل من الوظيفة ومصادرة الأموال وهدم المواخير وإزالة آثار الجريمة وقتل الجاسوس وأخذ شطر مال مانع الزكاة عند بعضهم وسحب ترخيص جواز السياقة من سائقها لمخالفته لقوانين الطرقات وحجز رخصة الدكان من المحتكر وفرض الإقامة الجبرية والاعتقال في البيوت وأمثال هذه العقوبات ونحوها كلها اقتضتها تغير أحوال الناس واختلاف أعرافهم، ولهذا يجب أن تراعى في فرض العقوبات التعزيزية، وكلها مرجعها إلى ما يقتضيه العرف والعادة، وقد قال القرافي في فروقه: فرب تعزير في عصر يكون إكرامًا في عصر آخر ورب تعزير في بلد يكون إكرامًا في بلد آخر كقطع الطيلسان بمصر تعزير وفي الشام إكرام وكشف الرأس عند الأندلسي ليس هوانًا وبالعراق ومصر هوان (١) .

ومما يرجع فيه إلى العرف الدية وهي ما يعطى عوضًا عن النفس قال تعالى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا} (٢) .

وفي الحديث: ((وإن في النفس مائة من الإبل)) ، وانعقد الإجماع على وجوبها لصون النفس وخفض دمها من الهدر وهي تكون من الإبل مائة ومن الذهب ألف دينار ومن الفضة اثنا عشر ألف درهم أو عشرة آلاف درهم عند أبي حنيفة، وقد اختلف الفقهاء في جنس الدية هل يجب أن تكون من الإبل وحدها ولا تصح من غيرها أو كما تكون من الإبل تكون من الذهب والفضة بدلًا عن الإبل وتقدر الدية بحسب ثمن الإبل في زمن دفع الدية أو أن الذهب والفضة كالإبل أصول في جنس الدية وجميعها بدل القصاص وتظهر ثمرة الخلاف عند تسليم الدية فعلى القول الأول يصح تسليم أي شيء من الأجناس الثلاثة وليس لولي الدم أن يمتنع من ذلك، ويرى الشافعي أن له ذلك إذا أصر على تسليم الدية من الإبل، ومالك رحمه الله يرى أن الدية تؤدي من الإبل والذهب والفضة ويرى أن كل قوم يؤدون من غالب ما عندهم كما ورد في الموطأ ولا يقبل ممن عندهم الذهب إلا الذهب، وكل ذلك منشؤه عرف الناس وعاداتهم وأحوالهم في استعمال المال وعلى ما لأبي الوليد الباجي في المنتقى قال: وعندي أنه يجب أن ينظر إلى غالب استعمال الناس في البلاد فأي بلد غلب على أموال أهلها الذهب فهم أهل ذهب وأي بلد غلب على أموالهم الورق فهم أهل ورق وربما انتقلت الأموال فيجب أن تنتقل الأحكام، وقد أشار مالك إلى ذلك في قوله فمكة والمدينة اليوم أهل ذهب (٣) .


(١) الفروق للقرافي، الفرق ٢٤٦، بين قاعدة الحدود وقاعدة التعزير وذكر عن ذلك وجوهًا عشرة.
(٢) سورة النساء: الآية ٩٢.
(٣) المنتقى، لأبي الوليد الباجي: ٧ /٦٨-٦٩.

<<  <  ج: ص:  >  >>