ثانياً: إن ما ورد في الحديث الشريف من أن أبا طلحة ترس للنبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد، هذا موضوع آخر، فالجهاد في سبيل الله يكون بالمال، ويكون بالنفس، وكونه بالنفس معناه تقديمها حماية لحرمات الإسلام والذود عنه، ورد الأعداء مهزومين، ويكون ذلك بأمور، منها الهجوم على الأعداء، ومنها حماية القادة والوقوف سدا منيعاً أمام النيل منهم، وإبعاداً للأعداء عنهم، حتى يتم التخطيط السليم للمعركة وإدارتها الإدارة المحكمة. وقد كان ما فعله أبو طلحة من هذا النوع رضي الله عنه.
ثالثاً: أن حفظ الحياة هدف عظيم، ومصلحة من المصالح الضرورية، كما سبق أن ذكرنا، فالحياة لا يعرضها الإنسان للتهلكة، قال تعالى:{وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} وقال: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} .
وأما في أثناء الجهاد، فيجب أن يتقدم الإنسان نحو الأعداء، ويقتحم جمعهم اقتحاماً لا يعرف التردد، ويقدم روحه فداء لدينه ووطنه، فإن لم يفعل كان من العصاة الآثمين المرتكبين لكبيرة من الكبائر، وهي:" التولي يوم الزحف "، فإذا تراجع إلى الخلف، لغير خدعة أو مكيدة حل قتله؛ لأنه آثر حياته على حياة دينه ووطنه، وفي ذلك شر عظيم، فالأرواح في الجهاد مبذولة، وفي السلم والأمن مصانة، وشتان بين الحالتين.
ولذلك أرى أن دائرة الإيثار ليست مطلقة في كل شيء، فهي في الحظوظ الدنيوية.
ولذلك وجدنا الإمام السيوطي يقول في الإيثار في القرب وفي العبادات:
(بل الإيثار إن أدى إلى ترك واجب فهو حرام، كالماء وساتر العورة والمكان في جماعة لا يمكن أن يصلي فيه أكثر من واحد، ولا تنتهي النوبة لآخرهم إلا بعد الوقت وأشباه ذلك.
وإن أدى إلى ترك سنة أو ارتكاب مكروه فمكروه، أو لارتكاب خلاف الأولى، مما ليس فيه نهي مخصوص فخلاف الأولى.
إذن لا بد من البحث في حكم الشيء المأثور به الغير، هل يؤدي الإيثار به إلى ترك واجب، فإن أدى إلى ذلك كان حراماً.
ونعلم جميعاً أن حفظ النفس أمر واجب، وإبعاد الضرر عنها أمر واجب، وهذا بالإجماع، وتعريضها للخطر أو للتهلكة أمر منهي عنه، فهو حرام.
ومن ثم يكون الإيثار بالنفس ذاتها وبجسم الإنسان أو أعضائه حراماً ولا يجوز الإقدام عليه ما عدا ما ذكرناه في أمر الجهاد في سبيل الله تعالى.