- الإيثار بالمال تارة يكون مستحباً، وتارة يكون مكروهاً ...
يفصل ذلك ويقرر الأحوال التي يكون فيها الإيثار مرغوبا، والأحوال التي يكون فيها مكروهاً.
الجصاص يقول: قال الله تعالى: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} الخصاصة: الحاجة، فأثنى الله على الأنصار بإيثارهم المهاجرين على أنفسهم فيما ينفقونه عليهم، وإن كانوا هم محتاجين إليه.
فإن قيل: روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أن رجلاً قال له: معي دينار. فقال:((أنفقه على نفسك)) فقال: معي دينار آخر. فقال:((أنفقه على عيالك)) فقال: معي دينار آخر. قال:((تصدق به)) .
(وروي أن رجلاً جاء ببيضة من ذهب فقال: يا رسول الله، أتصدق بهذه، فإني ما أملك غيرها. فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاءه من الشق الآخر، فأعرض عنه، إلى أن أعاد القول، فأخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم ورماه بها، فلو أصابته لعقرته، ثم قال: ((يأتيني أحدكم بجميع ما يملك، فيتصدق به، ثم يقعد يتكفف الناس، إنما الصدقة عن ظهر غنى)) .
(وروي أن رجلا دخل المسجد، والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب، والرجل بحال بذاذة، فحث النبي صلى الله عليه وسلم على الصدقة، فطرح قوم ثياباً ودراهم، فأعطاه ثوبين ثم حثهم على الصدقة، فطرح الرجل أحد ثوبيه، فأنكره النبي صلى الله عليه وسلم) .
ففي هذه الأخبار كراهة الإيثار على النفس والأمر بالإنفاق على النفس، ثم الصدقة بالفضل.
قيل له: إنما كره النبي صلى الله عليه وسلم ذلك؛ لأنه لم يثق منه بالصبر على الفقر، وخشي أن يتعرض للمسألة إذا فقد ما ينفقه، ألا ترى أنه قال: يأتيني أحدهم بجميع ما يملك فيتصدق به، ثم يقعد يتكفف الناس، فإنما كره الإيثار لمن كانت هذه حاله، فأما الأنصار الذين أثنى الله عليهم بالإيثار على النفس فلم يكونوا بهذه الصفة، بل كانوا كما قال الله تعالى:{وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ} فكان الإيثار منهم أفضل من الإمساك. والإمساك ممن لا يصبر، ويتعرض للمسألة أولى من الإيثار.