ويقول السيوطي: الإيثار في القرب مكروه، وفي غيرها محبوب، {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} ومعنى هذا أن الإيثار بالمال محبوب، ومرغوب فيه، أي (مستحب) .
ويقول الشيخ أبو محمد في الفروق: من دخل عليه وقت الصلاة، ومعه ما يكفيه لطهارته، وهناك من يحتاجه للطهارة لم يجز له الإيثار، ولو أراد المضطر إيثار غيره بالطعام لاستبقاء مهجته، كان له ذلك، وإن خاف فوات مهجته. والفرق أن الحق في الطهارة لله، فلا يسوغ فيه الإيثار، والحق في حال المخمصة لنفسه.
وقد علم أن المهجتين على شرف التلف، إلا واحدة تستدرك بذلك الطعام فحسن إيثار غيره على نفسه.
ويقوي هذا الفرق مسألة المدافعة، وهي أن الرجل إذا قصد قتله ظلماً وهو قادر على الدفع، غير أنه يعلم أن الدفع ربما يقتل القاصد فله الاستسلام (١) . وهذا رأي الشافعية في مسألة المدافعة خالفهم فيه جمهور الفقهاء الذين يرون أن الدفاع عن النفس واجب، وليس جائزاً وحينئذ ما رأى السيوطي أنه يقوي قول الشافعية في جواز أن يقدم الإنسان الطعام الذي ينقذ حياته لغيره إنقاذاً لحياة ذلك الغير، ليس على إطلاقه، بل هناك رأي في المذهب في مسألة المدافعة يتفق مع جمهور الفقهاء في ضرورة أن يحافظ الإنسان على حياته، قال تعالى:{وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} وقال تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} وقال صلى الله عليه وسلم: ((ابدأ بنفسك فتصدق عليها فإن فضل شيء فلأهلك، فإن فضل شيء فلذي قرابتك، فإن فضل عن ذي قرابتك شيء فهكذا وهكذا)) .. رواه مسلم
(١) وهذا الذي يقرره السيوطي في مسألة المدافعة مبني على أن المذهب الشافعي وكذا الحنابلة في رأي لهم يرى أن الدفاع عن النفس جائز، وليس واجباً لقول النبي صلى الله عليه وسلم في الفتنة: اجلس في بيتك، فإن خفت أن يبهرك شعاع السيف فغط وجهك. وفي لفظ: فكن عبد الله المقتول، ولا تكن عبد الله القاتل.. وعلى ذلك اعتمد عثمان بن عفان رضي الله عنه على أحد الأقوال في ترك القتال عندما هوجم في داره مع إمكان قتال المعتدين وردهم) ... ويرى جهور الفقهاء (الحنفية والمالكية والشافعية في رأي ثان لهم، والحنابلة والزيدية والإمامية) وجوب دفعه ورده، ولو أدى ذلك إلى قتله؛ لقوله تعالى: {وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إلى أَمْرِ اللَّهِ} [الآية: ٩ من سورة الحجرات) . فأمر الله تعالى بقتال الفئة الباغية، ولا بغي أشد من قصد إنسان بالقتل بغير استحقاق، فاقتضت الآية قتل من قصد قتل غيره بغير حق ... وأدلة أخرى كثيرة تدل على رجحان هذا الرأي بسطتها في كتابي الجنايات في الفقه الإسلامي ص ٢٦١