للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ورب سائل: لماذا احتاج الأمر إلى مؤسسات متخصصة ولم يعد يكفي فيه ما كان عليه الأوائل من ترتيبات للتعاون والتكافل ضمن نطاق العلاقات الاجتماعية أو المهنية أو علاقات الجوار والرحم؟ والجواب عن ذلك:

أ- إن المخاطر التي كانت تحدث بالفرد في الزمان القديم محدودة ومتشابهة بين فرد وآخر، وسبب ذلك بساطة الحياة وضآلة قيمة الأصول المملوكة للناس وقلة أنواع السلع والخدمات، ولذلك كان التزام الفرد بمساعدة الآخرين إنما هو التزام قابل للتوقع بصورة عفوية وممكن التقدير والقياس بسهولة، فالمخاطر متشابهة، ومستوى العيش متقارب، ثم لما تطورت سبل العيش وتحسنت وسائل المواصلات وتنوعت التجارات وازداد مستوى الرفاهية بظهور أنماط وأنواع مستجدة من السلع والخدمات كالسيارات والطائرات والكهرباء والإلكترونيات. . . إلخ، زادت هذه المخاطر زيادة عظيمة في الحجم والقيمة وتنوعت، فلم تعد متشابهة كما كانت في الماضي، ولذلك فإن من يعمل في التجارة يتعرض لمخاطر مختلفة تمام الاختلاف عن الطبيب أو العامل في محطة الكهرباء أو المعلم في المدرسة. . . إلخ، وأصبحت الفجوة بين الغني والفقير عظيمة؛ فأصبح التزام كل فرد بمساعدة الآخرين يترتب عليه تحمل بعضهم تبعات عند حدوث المكروه للآخرين أكثر من البعض الآخر، مما احتاج معه إلى تنظيم تتحدد بموجبه قدر المسؤولية بقياسها بمقدار الخطر.

ب- كانت جميع النشاطات التي يقوم بها الأفراد تتم بصفة مباشرة ضمن شبكة العلاقات الاجتماعية القائمة، فالعلم يتلقاه التابع عن الشيخ، والمهنة يأخذها المتدرب عن الحرفي الماهر. . . إلخ، ثم صار الناس يتعلمون في مؤسسة تسمى الجامعة أو الكلية أو المعهد الصناعي، وكذلك حال التكافل إذ يتم ضمن علاقات النسب بين أفراد القبيلة الواحدة أو الجوار في الحي أو المهنة الواحدة أو أهل السوق الواحد. . . إلخ، ثم لما جاء عصر التخصص وتقسيم العمل ظهرت المؤسسات التي تخصصت في تلك النشاطات التي كان يقوم بها الأفراد في القديم، فصار العلم يتلقاه الطالب في جامعة فلا يقال: شيخه فلان، بل يقال: تخرج في الجامعة الفلانية. وكذلك حال المهن الصناعية التي ظهرت لها المعاهد المتخصصة والكليات، وليس حال التكافل استثناء من ذلك، فقد كان تعاون الناس ومساعدة بعضهم البعض يتم من خلال علاقات القرابة والجوار والرحم. . . إلخ. فاحتاج الأمر إلى أن تتخصص فيه مؤسسة، فظهرت مؤسسات التأمين تمامًا كما ظهرت البنوك (مؤسسات للوساطة المالية) والشركات المساهمة والجامعات والمعاهد والمنظمات الدولية. . . إلخ.

<<  <  ج: ص:  >  >>