لقد تقدم في الفصل الرابع أن بينا قول القرافي الذي يقسم الذرائع إلى أقسام ثلاثة: ما هو معتبر إجماعًا، وما هو ملغي إجماعًا، وما هو مختلف بين العلماء والمذاهب في اعتباره من الذرائع، كبيع الآجال، وأن الأخذ بالذرائع أكثر منه الإمامان مالك وأحمد بن حنبل، ودونهما في الأخذ به الإمامان الشافعي وأبو حنيفة النعمان، ولكنهما لم يرفضاه جملة، ومهما يكن الأمر فإن الأخذ بالذرائع لا تجوز المبالغة والإغراق فيه؛ لأن ذلك قد يؤدي إلى تعطيل كثير من المصالح، فقد يمتنع بعضهم عن تولي أموال اليتامى أو أموال الأحباس خشية التهمة من الناس، وخوفًا من الوقوع في أكل تلك الأموال، سدا الذريعة مع أن ذلك غير صحيح؛ لأن الله تعالى أذن في مثل هذه المخالطة ووكل المخالطين في ذلك إلى أمانتهم، حيث قال تعالى:{وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ}[البقرة: ٢٢٠] .
وهكذا وكل الله الأمر إلى أمانة المكلفين في مثل هذه الأمور المخوفة حتى لا يقال إنه قد يؤدي إلى أمور محظورة فيمتنع لأن المضار التي تترتب على سد الذرائع في مثل ذلك أكثر من المضار التي تترتب على فتحها، إذا لو تركت الولاية على اليتيم سدا للذريعة لأدى ذلك إلى ضياع مال اليتامى، ولو ردت الشهادات سدًا لذريعة الكذب لضاعت الحقوق وعليه فلا بد من النظر إلى ما يؤدي إليه الأمر من المصلحة أو المفسدة أو يرجح بينهما إذا اقتضاه الفعل للأخذ بأرجحهما أثرًا، ومن هنا كانت الذرائع أصلًا للاستنباط باعتبار أن أساس الاستنباط وقاعدته النظر في مآل الأفعال وما يترتب عليها من مصلحة أو مفسدة، وأما الذين لا يحتجون بسد الذرائع فيرون أن منعه ليس من هذا الباب بل من باب: ما لا خلاص من الحرام إلا باجتنابه ففعله حرام، ومن باب ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب (١) .