للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وهذه الأقسام سليمة من حيث الفرض العقلي، ولكن القسم الأول لا يعد من الذرائع بل يعد من المقاصد؛ لأن الخمر والزنا والقذف كالربا وأكل أموال الناس بالباطل والنصب والسرقة مفاسد في ذاتها وليست ذرائع ولا وسائل. والكلام هنا في الذرائع والوسائل التي يؤدي إلى المفاسد فتدفع. ويسمى ذلك سد الذرائع (١) .

ويظهر أن ابن القيم حاول أن يقيم الدليل على المنع في القسمين الثاني والرابع من الأقسام التي هي محل نظر عند الفقهاء، ودلل على المنع بتسعة وتسعين وجهًا من الأمثلة موافقًا لأسماء الله الحسنى تفاؤلًا، وذكر في كل وجه المنع الذي قصده، وهو سد الذريعة، ولنكتف هنا بذكر بعض الأوجه التي ذكرها في كتابه إعلام الموقعين (٢) . والأدلة على المنع من فعل ما يؤدي إلى الحرام ولو كان جائزا في نفسه:

الأول: قوله تعالى: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: ١٠٨] فحرم الله سب آلهة المشركين مع كون السب غيظًا وحمية لله وإهانة لآلهتهم، لكونه ذريعة إلى سبهم الله تعالى، وكانت مصلحة ترك مسبته تعالى أرجح من مصلحة سبنا آلهتهم، وهذا كالتنبيه بل كالتصريح على المنع من الجائز لئلا يكون سببًا في فعل ما لا يجوز.

الثاني: قوله تعالى: {وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ} [النور: ٣١] فمنعهن من الضرب بالأرجل وإن كان جائزًا في نفسه لئلا يكون سببًا إلى سمع الرجال صوت الخلخال فيثير ذلك دواعي الشهوة منهم إليهن.

الثالث: قال الإمام أحمد: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع السلاح في الفتنة، ولا ريب أن هذا سد لذريعة الإعانة على المعصية، ويلزم من لم يسد الذرائع أن يجوز هذا البيع كما صرحوا به، ومن المعلوم أن هذا البيع يتضمن الإعانة على الإثم والعدوان، وفي معنى هذا كل بيع أو إجارة أو معاوضة تعين على معصية الله كبيع السلاح للكفار والبغاة وقطاع الطرق وبيع الرقيق لمن يفسق به أو يؤجره لذلك، أو إجارة داره أو حانوته أو خانه لمن يقيم فيها سوق المعصية، ونحو ذلك مما هو إعانة على ما يبغضه الله ويسخطه، ومن هذا: عصر العنب لمن يتخذه خمرًا، وقد لعنه رسول الله صلى الله عليه وسلم هو والمعتصر معًا، ويلزم من لم يسد الذرائع أن لا يلعن العاصر، وأن يجوز أن يعصر العنب لكل أحد، ويقول: القصد غير معتبر في العقد، والذرائع غير معتبرة. ونحن مطالبون بالظواهر، والله يتولى السرائر، وقد صرحوا بهذا. ولا ريب في التنافي بين هذا وبين سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم (٣) .

الرابع: ما رواه حميد بن عبد الرحمن عن عبد الله بن عمر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من الكبائر شتم الرجل والديه)) . قالوا: يا رسول الله وهل يشتم الرجل والديه؟ قال: ((نعم، يسب أبا الرجل فيسب أباه، ويسب أمه فيسب أمه)) متفق عليه، ولفظ البخاري: ((إن من أكبر الكبائر أن يلعن الرجل والديه)) . قيل: يا رسول الله كيف يلعن الرجل والديه؟ قال: ((يسب أبا الرجل فيسب أباه، ويسب أمه فيسب أمه)) .

فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجل سابا لاعنا لأبويه بتسببه إلى ذلك، وتوسله إليه وإن لم يقصده (٤) . وتبين لنا بصفة واضحة وجلية اعتماد الشريعة الإسلامية على سد الذرائع واعتباره من أدلة التشريع.

هذا وقد أجمع الصحابة على كثير من الأحكام اعتبارًا لسد الذرائع أو فتحها، فقد أجمع السلف الصالح على توريث المطلقة في مرض الوفاة، حتى لا يجعل الطلاق وسيلة إلى الحرمان من الإرث، سدًا للذريعة، ويسمونه: المعاملة بنقيض المقصود، وكذلك أجمعوا على أن القاتل لا يرث. وما ذلك إلا اعتبارا لسد الذرائع، حتى لا يعمد الناس إلى قتل أقاربهم ليستولوا على إرثهم (٥) .


(١) أبو زهرة أحمد بن حنبل ص ٣١٩
(٢) إعلام الموقعين ج٣ ص ١٤٩
(٣) إعلام الموقعين ج٣ ص ١٧
(٤) إعلام الموقعين ج٣ ص ١٥٠
(٥) أصول الفقه لعربي اللوة ص ٢١١

<<  <  ج: ص:  >  >>