ما أجمعت الأمة على عدم منعه، وأنه ذريعة لا تسد، ووسيلة لا تحسم، كالمنع من زراعة العنب خشية الخمر، فإنه لم يقل به أحد وكالمنع من المجاورة في البيوت خشية الزنا.
القسم الثالث:
ما اختلف فيه العلماء هل يسد أم لا؟ وذلك كبيوع الآجال، كمن باع سلعة بعشرة دراهم إلى شهر، ثم اشتراها بخمسة قبل الشهر، فمالك يقول إنه أخرج من يده خمسة الآن وأخذ عشرة آخر الشهر، فهذه وسيلة لسلف خمسة بعشرة إلى أجل، توسلًا بإظهار صورة البيع لذلك، والشافعي ينظر إلى صورة البيع، ويحمل الأمر على ظاهره، فيجوز ذلك، والحكم بالعلم هل يحرم لأنه وسيلة للافضاء إلى الباطل من قضاء السوء أو لا يحرم؟ محل خلاف بين العلماء.
ولكل وجهة، وقد وجدنا الشارع ينهي عن الشيء وينهي عن كل ما يوصل إليه، ويأمر بالشيء ويأمر بكل ما يوصل إليه، وهكذا كان كل مطلوب بالقصد الأول قد طلبت وسائله بالقصد الثاني، وكل منهي عنه بالذات تكون وسائله منهيًا عنها، لأنها تؤدي إليه، وبذلك المنهج أخذ الإمام مالك ومن تبعه، والإمام أحمد ومن تبعه.
والأصل في اعتبار سد الذرائع هو النظر إلى مآلات الأفعال، وما تنتهي في جملتها إليه، فإن كانت تتجه إلى المصالح التي هي المقاصد والغايات من معاملات الناس بعضهم مع بعض كانت مطلوبة بمقدار يناسب طلب هذه المقاصد، وإن كانت مآلاتها تتجه نحو المفاسد فإنها تكون محرمة بما يتناسب مع تحريم هذه المفاسد.
والنظر في هذه المآلات لا يكون إلى مقصد العامل ونيته، بل إلى نتيجة العمل وثمرته، وبحسب النية يثاب الشخص أو يعاقب في الآخرة، وبحسب النتيجة والثمرة يحسن الفعل في الدنيا أو يقبح، ويطلب أو يمنع، وقد يستوجبان النظر إلى النتيجة والثمرة دون النية المحتسبة والقصد الحسن، فمن سب الأوثان مخلصًا العبادة لله فقد احتسب نيته عند الله في زعمه، ولكنه ـ سبحانه وتعالى ـ نهى عن السب إذا أثار ذلك حنق المشركين فسبوا الله تعالى. فقد قال تعالى:{وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ}[الأنعام: ١٠٨] .
فهذا النهي كان الملاحظ فيه هو النتيجة الواقعة لا النية المحتسبة.