وفيما قرره وقسمه هذا الفقيه النبيه، الذي لا ينكر فضله وعلمه، أخذ ورد، وقبول ورفض ولكل عالم هفوة، ولكل جواد كبوة، و (كفى المرء نبلًا أن تعد معايبه) ، والسبب في هذا كله، هو: تدفقه في القول وإكثاره من الصول والجول، وزيادته في التقسيم والتعميم، فوق اللزوم، والإكثار لا يسلم صاحبه من العثار، والتدفق لا يخلو من الكدورة والتورط.
١- وأولًا: إن القسم الأول من الذرائع، وهو: ما وضع للإفضاء إلى مفسدة، كشرب الخمر، والزنى ليس من (الذرائع) ، في ورد ولا صدر، وإنما هو من باب المقاصد، ذلك لأن الزنى ـ الذي مثل به (ابن قيم الجوزية) لهذا القسم ـ متضمن المفسدة في ذاته، وليس ذريعة إلى مفسدة أخرى أكبر منه، وكذلك بقية الأمثلة.
وليس أدل على ذلك، من أن الإمام القرافي، قد جعل هذا القسم، من باب المقاصد لا الوسائل فقال:(موارد الأحكام على قسمين:
مقاصد: وهي المتضمنة للمصالح والمفاسد في أنفسها.
ووسائل: وهي الطرق المفضية إليها، وحكمها حكم ما أفضت إليه من تحريم وتحليل، غير أنها أخفض رتبة من المقاصد في حكمها" (١) .
(وبالجملة) : فإن الشريعة قد جاءت بالمنع من هذا القسم.
وما تمنعه الشريعة من الأفعال قسمان: قسم يشتمل بنفسه على المفسدة، كالزنى، وشرب الخمر، والقذف، والسرقة، والقتل بغير حق ... وقسم لا يشتمل على المفسدة بنفسه، ولكنه يفضي إلى ما فيه المفسدة، وهذا هو الذي يسمى (ذريعة) ويسمى منعه سدًا.
ومن حكمة الشريعة الإسلامية: أنها لم تقصر النظر على ما يحتوي المفسدة بنفسه، بل وجهت نظرها إلى وسائل ما فيه المفسدة، فمنعتها. والآيات والأحاديث الواردة في الكتاب والسنة، بالنهي عن وسائل ما تقع المفسدة بوقوعه، غير قليلة، ومن شواهد هذا، ما ذكرناه من قوله تعالى:{وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ}[الأنعام: ١٠٨] .
ويضاهي هذا الشاهد، قوله صلى الله عليه وسلم:((إن من أكبر الكبائر، أن يلعن الرجل والديه)) قيل: يا رسول الله وكيف يلعن الرجل والديه؟ قال:((يسب الرجل أبا الرجل، فيسب أباه ويسب أمه)) . أخرجه البخاري في صحيحه.
ولباب القول: هو أن (القسم الثاني) : وهو ما وضع للمباح، ولكنه اتخذ وسيلة، إلى مفسدة، هو (بيت القصيدة،) ، وهذا هو السر، في أن كثيرًا من علماء الأصول، يعرفون (الذريعة) ، بما يقصرهم على هذا القسم؛ لأنه هو محل الخلاف، فيقولون: إن الذريعة: هي الأمر المباح، الذي يتخذ وسيلة إلى مفسدة. (والله تعالى أعلم) .