للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

٢- انقطاع النقد وكساده وغلاؤه ورخصه:

أما وقد ظهر أن النقود السلعية ومنها الدرهم والدينار لم تعد موجودة في زمننا الحاضر، وإنما الناس يتعاملون بالورق النقدي (الائتماني) . فكيف تكون حالات النقود التي تحدث عنها الفقهاء مثل الانقطاع والكساد والغلاء والرخص؟

أ- انقطاع النقود:

وقد عرفه الفقهاء بمثل التعريف التالي أو قريبًا منه: "عدم وجود مثل الشيء في الأسواق ولو وجد ذلك المثل في البيوت فإنه ما لم يوجد في الأسواق فيعد منقطعًا" (١) .

وقد كان هذا يحدث كثيرًا في الأزمنة القديمة عندما كان الناس يتعاملون بأنواع من النقود، في نفس الوقت، مثل أنواع الدراهم والدنانير والفلوس المختلفة، وقبل ما لا يزيد عن خمسين سنة كانت أكثر مجتمعات الإسلام، لا سيما في الشرق الأوسط، لا تزال تتعامل بما لا يقل عن خمس أو ست عملات في نفس الوقت (٢) . ولذلك يحدث في كثير من الأحيان أن يتعاقد الناس، وتترتب لبعضهم على بعض الحقوق والديون بعملة محددة ثم تنقطع تلك العملة لأسباب كثيرة، منها: توقف سكها في بلد المصدر، ارتفاع قيمة معدنها مقابل العملات الأخرى (إذا ارتفع الطلب على الذهب اختفى من الأسواق) ... إلخ فهي تختفي من الأسواق ولكنها تبقى لدى بعض الأفراد في البيوت.

وقد عرفت البلدان التي كانت تتبنى نظام المعدنين (الذهب والفضة) في إصدارها النقدي هذه الظاهرة في العصور الحديثة.

فالمملكة العربية السعودية قبل سنة ١٩٥٤ م كانت تعاني من مثل ذلك إذ كانت نقودها الريال (الفضي) والجنيه (الذهبي) فكان ارتفاع أسعار الذهب في خارج المملكة يؤدي إلى اختفائه من الأسواق لاتجاه الناس لتصديره فيختفي من الأسواق وما بقي منه يحتفظ به الناس في منازلهم، ومثل ذلك يحدث عند ارتفاع سعر الفضة، تلك هي حالات الانقطاع التي تحدث عنها الفقهاء.

وقد كانت ملاحظة الفقهاء في هذا الموضوع دقيقة، إذ كانت النقود تختفي من الأسواق (أي في التبادل) ولكنها تبقى في البيوت؛ لأن ارتفاع قيمتها يدفع الناس إلى الاحتفاظ بها وادخارها، وهذا شبيه بما يسمى عند الاقتصاديين بقانون قريشام (٣) وواضح أن هذه الظاهرة مردها أن للنقود من ذاتها قيمة لذلك يميل الناس إلى سحبها من التبادل مطمئنين إلى بقاء تلك القيمة فيها؛ لأنها مستمدة من محتواها من المعدن.


(١) درر الحكام لعلي حيدر ١/ ١٠٨
(٢) وقد تعامل المسلمون بأجناس من الدراهم والدنانير في نفس الوقت، وتزخر كتب التاريخ بأسمائها مثل البغلية والطبرية واليزيدية والشريفي والبندقي والمحمدي والكلب والأنموري والناصري.. إلخ. وتعامل أهل الحجاز قبل سنة ١٩٥٤ م في نفس الوقت بالريال المجيدي (نسبة إلى السلطان عبد المجيد) والريال الفرنسي (دولار ماريا تريزا) والريال السعودي (من الفضة) والجنيه الإنجليزي (الذهب المسمى جورج) والجنيه السعودي (ذهبي) والروبية الهندية (من الفضة) والريال الحميدي (نسبة إلى السلطان عبد الحميد) والريال الهاشمي (من الفضة) والجنيه الهاشمي (أبو خيلين) إضافة إلى القرش (نيكل) والبيزة والآنه وغيره من أنواع الفلوس
(٣) وهو القانون الذي يقول: إن العملة الرديئة تطرد العملة الجيدة من الأسواق أي أن الناس يحتفظون بها ويتعاملون في الشراء والبيع بالعملة الرديئة ليتخلصوا منها

<<  <  ج: ص:  >  >>