هذا البحث قد درس في الدورة الثالثة والخامسة لمجمع الفقه الإسلامي، وكانت جملة البحوث وما لحقها من مناقشات وقرارين دونت في المجلة فبلغت خمسًا وستين وتسعمائة صفحة واقتصرت في بحثي على مذهب مالك.
للمالكية رأيان في كساد النقود:
الرأي الأول: أن الديون تقضى بأمثالها ولا ينظر للقيمة لا عند الانقطاع ولا عند الرخص والغلاء بناء على أن المثلي يقضى بمثله؛ ولأن النقود أثمان فلو جعلناها مقومة لاختل الميزان، وأنها إن انحطت قيمتها فهي مصيبة نزلت بالدائن.
الرأي الثاني: أنه ينظر إلى القيمة إما يوم تعلق الدين بالذمة أو يوم انقطاع السكة أو يوم الأداء، أو هما معًا، ولكل من حدد المرجع وجهة، اعتمادًا على العدالة وأن النقود لا تراد لذاتها ولكن لما يمكن حاملها من التحصيل عليه.
ولم يوجد نص من علماء المالكية يتحدث في صراحة عن حكم انهيار القدرة الشرائية للفلوس، لكن يفهم من كلامهم التسوية بين انقطاع الفلوس ورخصها صراحة في كلام مالك في المدونة ومن تابعه، وتأملًا في تعليل أهل الرأي الثاني وما صرح به الرهوني في فهمه لكلام أصحاب هذا الرأي.
إلا أن ضبط الرخص الذي يكون معتبرًا عند أهل الرأي الثاني لم تنجد لهم تصريحًا به، ولكن يؤخذ إما قياسًا على الجائحة في الثمار أو يعتمد فيه رأي القضاء الذي ينظر في الواقع وملابساتها تبعًا لمقدار الدين وتأثر صاحبه بما طرأ من نقض هل هو مما مدخول عليه حسب العرف ويتسامح فيه أو هو مؤثر؟
العملة الورقية:
العملة الورقية حادثة فليس للفقهاء السابقين فيها رأي تبعًا لذلك، ولكن الاتجاه العام للفقهاء المعاصرين أنها تجري عليها أحكام التعامل المقررة في النقود؛ لأنها قامت مقامها وحظيت بالقبول العام اختزانًا للعمل ولتقديمها أثمانًا ومهرًا ونحو ذلك.
ويلاحظ أنه تأخذ شبهًا بالنقدين الذهب والفضة في أنها تقضى بها الديون قليلة كانت أو كثيرة، وتختلف عنها في أن مادتها لا قيمة لها بخلاف الذهب والفضة فإن مادة النقود تبقى على قيمة ما تحويه من وزن، وجودة في المعدن المكونة منه.
وتأخذ شبهًا بالفلوس في أن الفارق بين مادتها وبين قيمتها كبيرًا جدًّا، ومن ناحية أخرى تختلف عنها، ذلك أن الفلوس الشأن فيها ألا تدخل في التعامل إلا في الأشياء البسيطة التي لا كبير قيمة لها، ولذا جاء في القانون الفرنسي أن قضاء الديون بالنقود المعدنية لا يقبل إلا في حدود تافهة.