للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وبهذا يظهر صحة إلحاق الأوراق النقدية بالفلوس في أحكام التعامل بها، ولما انتهينا إلى أن الفلوس إذا بطل التعامل بها للفقهاء فيها طريقتان، فكذلك الأوراق النقدية، ولما كان القرن الخامس زمن اهتزازات كبرى في المشرق والمغرب، وقيام دول وسقوط أخرى وانقسام الدولة إلى دول مستقلة متعادية، الأمر الذي عمت به الاضطرابات والفتن وتأثر بذلك الاقتصاد طبعًا، وعمد بعض المتغلبين على التدخل في النقود تدخلًا اختلفت صوره، وخاصة في إبطال الفلوس والأمر بقطعها من التعامل واستبدالها بغيرها إبرازًا للانفصال بين الطور الجديد والطور القديم في هذه الظروف رأينا أن العلماء في الأندلس وإفريقية أحسوا بالمشكلة إحساس من يعيش الأزمة ويتأثر بملابساتها، فذهب من ذهب منهم إلى اعتماد القول بالقيمة في الوفاء بالديون سواء أكانت من قرض أو بيع، وإظهار هذا القول الضعيف والإفتاء به تبعًا لحالة عدم الاستقرار، وإن اختلفوا في الأصل الذي يرجع إليه كمعيار للقيمة هل هو سلعة أو سكة وفي أي ظرف تعتبر القيمة؟

قد يكون هذا الوضع المهتز في تلكم العصور أقرب إلى الاستقرار من الوضع الاقتصادي للعالم في هذا العصر، إذ أن الهيكل الاقتصادي العظيم بفروعه وشعبه وبضخامة الكتلة النقدية التي بلغت حدًّا ما عرفته البشرية في تاريخها الطويل، بما دخل في الدورة الاقتصادية من طاقة وفن وتقنية وعلم، أن هذا الهيكل رغم ذلك قد وقع إفراغ أساسه فنخرته المصالح الفردية والدولية والنظرة القصيرة إلى الغنم العاجل، والأنانية المفرطة، إنه بين الفينة والأخرى تنفجر أزمة انهيار مالي كعاصفة مفاجئة تتكتل الجهود لتجاوزها، ولكنها إن مرت بسلام دون أن ينهار الاقتصاد فإنها تضعف الثقة بالمستقبل، ويهتز الاطمئنان- ذلك:

١- إن الكتلة النقدية اليوم لم تعد مرتبطة لا بالذهب ولا بالناتج القومي وحدهما، ولا هي تعبير عن الأوراق البنكية، بل يدخل فيها زيادة على ذلك الادخار إلى أجل، حساب الدفاتر، مستندات الخزينة، الادخار السكني الذي تقوم عليه الدولة أو البنوك أو المؤسسات.... ثم إن هذه الروافد أصبحت تتضخم يومًا فيومًا حتى تحققت لها الغلبة فبالرجوع إلى تقرير البنك المركزي الفرنسي الصادر سنة ١٩٧٩ نتبين ما يلي:

إن نسبة أوراق العملة من الكتلة النقدية في فرنسا كانت تمثل سنة ١٩٧٠ - ٢٣.٣? وانخفضت سنة فسنة حتى وصلت سنة ١٩٧٩- ٣١.٣?.

كما أن الموجودات من الذهب ومن الديون على الخارج كانت تمثل بالنسبة للكتلة النقدية ٦.٢٠? سنة ١٩٧٠ وانحدرت شيئًا فشيئًا حتى وصلت سنة ١٩٧٩ إلى ٤.٨?.

٢- إن الدور الذي فرضته الولايات المتحدة على العالم تبعًا لتفردها بالانتصار الحقيقي في الحرب العالمية الثانية، وتبعا لقوتها الاقتصادية والعسكرية والتقنية بلغ أن أصبحت الولايات المتحدة لها امتياز البنك المركزي للعالم، إذ هي تتحكم حسب مصالحها في قيمة العملة في كل بلد من البلدان، فإذا فرضت مصالحها ارتفاع قيمة الدولار زادت في نسبة الفائدة، وأوقفت التدفقات الكبرى منه في الأسواق المالية، حتى إذا ما تحولت مصلحتها إلى العكس من ذلك خفضت من نسبة الفائدة وضخت بكتل كبيرة منه في الأسواق لتشتري العملة التي ترغب في التأثر عليها تأثيرًا يرفع من قيمتها تبعًا للخطة التي تبغي الوصول إليها من غزو الأسواق وانتعاش صادراتها وضرب المزاحمين لها.

<<  <  ج: ص:  >  >>