للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

آثار كساد النقود الورقية وما يلحق به في تعيين قيمة

الحقوق والالتزامات الآجلة والأدلة الشرعية

بعد أن عرفنا أن المراد من الكساد في الأصل ترك التعامل بالعملة الورقية في جميع البلاد، وأن التغير الفاحش في انخفاض قيمة العملة ألحقه بعض العلماء في الكساد، وضبطنا ذلك أنه إذا انخفضت العملة الورقية إلى أقل من نصف ما كانت عليه وقت ثبوت الحق أو الالتزام الآجل، وبينت أدلة اختياري لهذا المستوى من الانخفاض في الإلحاق بالعملة الكاسدة.

وبعد أن بينت أن بعض العلماء كأبي يوسف صاحب أبي حنيفة والرهوني من المالكية أفتى بثبوت قيمة العملة المتغيرة وقت العقد. وأفتى بعض علماء المالكية والحنابلة والحنفية بالقيمة يوم القرض بالذهب؛ وبعد هذا أسوق بعض الأدلة الشرعية على الحكم بثبوت القيمة يوم العقد أو وقت ثبوت الحق للحقوق والالتزامات الآجلة إذا كان التغير أو الانخفاض كثيرًا أو فاحشًا إلى أقل من نصف قيمتها وقت ثبوت الحق مقارنة بالذهب، هذه الأدلة من الكتاب والسنة وأقوال بعض علماء هذه الأمة.

أ- من الكتاب:

يقول الله تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: ١٨٨] وصاحب الحق سواء أكان دائنًا أو مقرضًا أو أجيرًا (موظفًا) قائما بعمله أو متقاعدًا أو ملتزما بمقاولة إنشائية أو غيرها كعقد توريد (طعام مثلًا للمدارس أو المستشفيات) مقابل حق آجل؛ حينما يستلم أقل من نصف حقه وقت ثبوته بسبب الغلاء أما يكون الطرف الثاني قد أكل حقه بالباطل (حرام) ؟

إذا كانت هذه الآية في أول مرادها حرمت على المرء أن يأكل مال نفسه بالباطل وذلك إذا أنفق المال على وجه البطر والإسراف؛ لأن هذا من الباطل الحرام وليس من الحق، فمن باب أولى يحرم التعدي على حق غيره وأكله بالباطل ولو بثبوت العقد‍! يقول الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي يرحمه الله تعالى في تفسير هذه الآية في تفسيره: ولا تأخذوا أموالكم أي أموال غيركم إضافة إليهم؛ لأنه ينبغي للمسلم أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه ويحترم ماله، كما يحترم ماله؛ ولأن أكله لمال غيره، يجرئ غيره على أكل ماله عند القدرة، ولما كان أكلها نوعين: نوعًا بحق ونوعًا بباطل، وكان المحرم إنما أكلها بالباطل قيده الله تعالى بذلك". (١) وكذلك في قوله تعالى {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} [الأعراف: ٣٣] وتفسير العلماء للفاحشة بمجاوزة الحد وقدره وكل أمر لا يكون موافقًا للحق فهو فاحشة (٢) واستلام صاحب الحق أقل من نصف حقه لا شك فيه مجاوزة للحق. ونقلنا أن صاحب القاموس المحيط يقول عن الفاحش: الكثير الغالب وتدهور قيمة العملة إلى أقل من نصف قيمتها سابقًا وقت ثبوت الحق لا شك أنه كثير غالب وأنه ظلم؛ والظلم يزال.


(١) تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان للشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي المتوفى ١٣٧٦ هـ طبع مطبعة المدني ١٤٠٨ هـ ١٩٨٨م: ١/١٤٨ و١٤٩.
(٢) تهذيب اللغة للأزهري ٤/١٨٨

<<  <  ج: ص:  >  >>