ثالثاً: هناك اتفاق تام على أن الأجر المستحق يجب أن يحدد تحديداً واضحاً بنقد رائج معلوم بكذا دراهم أو دنانير من نقد البلد غالباً، ولو اتفق على دفع الأجر من مكيلات أو موزونات أو معدودات متقاربة فإن الشرط بيان القدر والصفة في أي حالة على وجه التحديد، ويلاحظ أن مثل هذه السلع المتجانسة أو المتماثلة الوحدات استخدمت قديماً كنقود سلعية في المبادلات، ويلاحظ أن مثل هذه النقود السلعية تشترك مع النقود الذهبية والفضية في أن لها قيمة أو مالية ذاتية، على عكس النقود الاصطلاحية أياً كان شكل هذه الأخيرة، وفي المصادر الفقهية ما يؤكد جواز تحديد الأجر أيضاً بأي سلع أخرى (وربما منافع) لها مواصفات مميزة ومعروفة وفي حد ذاتها مقبولة بصفة عامة بين الناس، أما إذا لم يكن الأجر محدداً تحديداً واضحاً فغير جائز لاحتمال الجهالة أو الغرر، وكل ما سبق يعني أن أئمة الفقه الإسلامي كانوا حريصين أشد الحرص على تحديد ما نسميه في الفكر الحديث بالأجر الحقيقي عند التعاقد على العمل.
ويترتب على هذا أمر هام في بحثنا الحالي، حيث إن الأجور تستحق بالنقد الرائج المتداول الذي هو نقد ورقي اصطلاحي، ليس له بالضرورة صفة الاستقرار أو الثبات، فالنقد الرائج المتداول في عصرنا قد يستقر في قيمته الحقيقية (قوته الشرائية) حيناً، وقد يتدهور حيناً آخر، وبذلك فهو لا يضمن استقرار الأجر الحقيقي الذي هو عبارة عن كم معين سلعي.
ولدينا احتمالات ثلاثة: أولها أن الأجر المستحق بالنقد الورقي المتداول يتقلب في قيمته الحقيقية حول مستوى معين، تارة لأعلى إذا انكمشت الأسعار أو غلت النقود، وتارة لأسفل إذا ارتفعت الأسعار ورخصت النقود، وثانيها أن القيمة الحقيقية للأجر المستحق بالنقد الورقي المتداول تتجه بصفة مستمرة لأعلى بسبب استمرار انكماش الأسعار –أي غلاء النقود- على المدى الطويل من الزمن، وثالثها أن القيمة الحقيقية للأجر المستحق بالنقد الورقي المتداول تتجه بصفة مستمرة لأسفل بسبب استمرار ارتفاع الأسعار – أي رخص النقود- على المدى الطويل من الزمن.
والاحتمال الأول لا يستدعي معالجة خاصة؛ حيث إنه إذا سارت الأمور على مثل هذا المنوال فإن الضرر أو النفع الواقع على أحد طرفي العقد لن يستديم، بل إن الضرر والنفع قد يتساويان في المتوسط على مدى الزمن بشكل لا يتضمن إخلالاً بالعدالة، أما في الحالتين الأخريين فإن الأمر يختلف بداهة؛ ذلك لأنه إذا انكمشت الأسعار بصفة مستمرة فغلت النقود بصفة مستمرة فإن في هذا إضراراً بالمستأجر للعمل على مدى الأجل الطويل، ويزداد الضرر طالما بقي مستوى الأجر النقدي ثابتاً، وكلما طالت مدة العقد واشتدت حدة غلاء النقود، والعكس صحيح، بمعنى أنه إذا ارتفعت الأسعار بصفة مستمرة فرخصت النقود بصفة مستمرة فإن في هذا ضرراً مؤكداً واقعاً على الأجير، وتشتد حدة الضرر طالما بقي مستوى الأجر النقدي ثابتاً وكلما طالت مدة العقد واشتدت حدة رخص النقود.