للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الحالة الثانية – اشتراط السلامة:

تناول الفقهاء ما لو تعاقد الطبيب مع مريضه واشترط أن يكون عمله مقترناً بالسلامة من السراية (المضاعفات..) فالشرط باطل؛ إذ ليس في وسعه ذلك، وما دام ما ينتج عن الفعل المعهود المستوفي للشروط معفى من المسؤولية فلا تترتب بمجرد الاتفاق.. للقاعدة القائلة: ضمان الآدمي يجب بالجناية لا بالعقد (١) ويلحظ هنا أن الشارع قد تدخل لينقذ الطبيب الذي تورط بقبول هذه المغامرة، إما مدفوعاً بإقدامه على أكثر مما يطيق، وإما بدافع الحاجة لقطف ثمار عمله ولو كانت محاطة بمحاذير، والشريعة جاءت لإقرار العدل أو لتحقيقه حين يزهقه جموح أو طغيان الأطراف.

ب- المسؤولية الجنائية:

الكلام عن المسؤولية الجنائية المترتبة على الطبيب إنما هو في مجال ممارسته المهنة (لأن تصرفاته العمدية العدوانية خارج المهنة، لا تختلف عن غيره) ، ولكن نظراً إلى أن طبيعة مهنته قد يلتبس فيها التصرف المعتاد المقصود به العلاج، بالتصرف الجنائي الناشئ عن جهل أو تجاوز أو خطأ، فقد تناول الفقهاء بالدراسة هذه التصرفات بإسهاب وتفصيل يمكن إيجازه على النحو التالي:

إن اعتبار التطبيب واجباً كفائياً يقتضي أن لا يكون مسؤولاً عما يؤدي إليه عمله قياماً بواجب التطبيب؛ لأن القاعدة أن الواجب لا يتقيد بشرط السلامة، لكن لما كانت طريقة أداء هذا الواجب متروكة لاختيار الطبيب وحده؛ لما له من السلطان الواسع في الطريقة وكيفية الأداء تبعاً لاجتهاده العلمي والعملي كان ذلك داعياً للبحث عن مسؤوليته جنائياً عن نتائج عمله إذا أدى إلى نتائج ضارة بالمريض، باعتباره أنه حين يؤدي واجب التطبيب أشبه بصاحب الحق فيه بمؤدي الواجب، ولا يخفى أن صاحب الحق يسأل في حال تجاوزه حقه. وبمناسبة الموازنة بين اعتبار الطبيب قائماً بواجب أو اعتباره صاحب حق، يهتم الفقهاء بالتأكيد على ضرورة الاستعانة بخبرة الطبيب في تنفيذ القصاص الشرعي في حالة وجوبه بالجناية على النفس (القتل) ، أو الجناية على ما دون النفس (الجراح وإتلاف الأطراف أو الحواس) ، فلا شك عندهم أن قيامه بذلك هو من قبيل أداء الواجب.. وقد اتفق الفقهاء على أن مقتضى الإحسان في التنفيذ أن يعهد به إلى ذوي الخبرة بعد أن يوكلهم الأولياء المتمسكون بحق القصاص إذا لم تطب نفوسهم بالعفو، لما يتطلبه ذلك من دقة وحذر لعدم مجاوزة الواجب، قصاصاً كان أو حداً، ولتحقيق البعد عن الظلم والتعذيب.. وقد تضمنت المراجع الفقهية القديمة بعض الأصول التي كانت تراعى قبل التنفيذ، والوسائل التي كانت تستخدم في القياس وتحديد محل الاستيفاء؛ ليتم على أعدل وجه وأرفقه وأسهله. (٢)


(١) الهداية ٢/١٩٤ و٣/١٧٩، مجمع الضمانات ص (٤٧-٤٨) وفيه تفصيلات طريفة.
(٢) المغني ٤/٣٥١، وهناك كتاب مطبوع باسم (مقاييس الجراحات) لبعض فقهاء الإباضية فيه مزج بين الرياضيات والطب كوسيلة لتحقيق عدالة التنفيذ.

<<  <  ج: ص:  >  >>