للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ثم انتقلت إلى بحث التلفيق الذي يقع فيه العوام حكمًا، فما من عامي إلا وهو ملفق، لأنه يسأل العلماء دون أن يعرف مذهب مفتيه فيقع في الواقع في التلفيق، لأنه مضطر إلى أن يعرف الحكم الشرعي حينما يجاب عن قضية من القضايا، ثم يسأل عبر هذا المفتي وهو من أنصار أتباع مذهب آخر نجده يأخذ بالرأي الآخر فيقع في التلفيق حكمًا، والتلفيق هو الإتيان بكيفية لا يقول بها المجتهد إذا عرضت عليه؛ كأن يقلد أحد مذهب الإمام الشافعي في الاكتفاء بمسح بعض الرأس، ثم يقلد مذهبًا آخر كالحنفية والمالكية في عدم نقض الوضوء بلمس المرأة ثم مع أن أبا حنيفة يطالب بضرورة مسح ربع الرأس، والإمام مالك والإمام أحمد يطالبان بضرورة مسح جميع الرأس، وكذلك قضية دلك الأعضاء؛ في النتيجة يكون قد وصل هذا الشخص إلى حالة إذا عرضت على كل إمام من الأئمة لا يقرها، وهذا أعتقد من التلفيق الذي لا أجد فيه منعًا. لكن هناك تلفيق ممنوع مثل التلفيق في الأحوال الشخصية بأن يتزوج رجل امرأة بلا ولي ولا مهر ولا شهود مقلدًا كل مذهب فيما لا يقول به الآخر فهذا يؤدي في النتيجة إلى استباحة الأبضاع والخروج من قيود الشريعة؛ فلذلك أجد هذا من التلفيق الممنوع، وقد نص العلماء على ذلك. كذلك قضية التحليل أن يطلق المرأة البائن بينونة كبرى تطلق فيما تزوج بابن عمره تسع سنوات مقلدًا في هذا الزواج مذهب الشافعية من أجل تحليل المرأة مع أن هذا التقليد غير صحيح لأن الشافعية لا يجيزون تزويج الابن القاصر إلا من قبل ولي عدل وأن يكون في هذا الزواج مصلحة فلذلك هذا التلفيق أيضا ممنوع، للتلفيق مجال في الأحكام الفرعية العملية الاجتهادية الظنية، أما ما يتعلق في العقائد وأصول الدين، وما علم من الدين بالضرورة والأمور المجمع عليها والتي يكفر جاحدها فلا مجال للتلفيق فيها.

العلماء انقسموا في قضية التلفيق إلى قسمين، منهم من يرى، وهم أكثر المتأخرين، يرون منع التلفيق، ورأي آخر لجماعة كثر يرون جواز التلفيق، والمانعون يستدلون على ما قرره علماء الأصول في قضية الإجماع من منع إحداث قول ثالث إذا اختلف السابقون في مسألة على رأيين؛ فقال أكثر العلماء: إن وجود قول ثالث في هذا الموضوع مثل عدة الحامل المتوفى عنها زوجها فيها رأيان: وضع الحمل وأبعد الأجلين، فلا يجوز إحداث قول ثالث بأن عدتها بالأشهر فقط؛ استندوا على هذا المنع.

فقرروا عدم جواز التلفيق، وبينت أن هذا غير سديد لأن تقليد كل إمام في قضية ليس من قبيل إحداث قول ثالث وإنما التقليد في جزئية تختلف عن الجزئية التي قلد فيها ذلك الإمام، ونقضت أدلة هؤلاء المانعين ونقلت عن كثير من العلماء سواء الحنفية والمالكية والشافعية ما يدل على جواز التلفيق.

وهذا كما أوضحت في أن تتبع الرخص يتفق مع المبدأ الذي قام عليه الإسلام وهو أنه شريعة اليسر والسماحة وليس في ذلك حظر يقوم على التشديد والإعنات وإيقاع الناس في الحرج، لكن ليس كل تلفيق جائزًا، وإنما التلفيق منه ما هو جائز ومنه ما هو ممنوع، وقد حصرت التلفيق الممنوع في ثلاثة أنواع؛ النوع الأول: تتبع الرخص عمدًا وهو ما قلت سابقًا في قضية جواز تتبع الرخص: يجوز بشرط ألا يؤدي إلى التلفيق الممنوع. ثم النوع الثاني: التلفيق الذي يستلزم نقض حكم الحاكم، ثم النوع الثالث: التلفيق الذي يستلزم الرجوع عما عمل به تقليدًا أو عن أمر مجمع عليه لازم لأمر آخر قلده، وأتيت بالأمثلة على هذا.

<<  <  ج: ص:  >  >>