للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

والجانب الثالث الذي ركزت عليه السنة لإقرار مبدأ التيسير هو ما بينته عديد من الأحاديث من أنه صلى الله عليه وسلم كان يتعمد ترك بعض القربات خشية أن يشق على المؤمنين، وهو بهم – كما وصفه الله تعالى – رؤوف رحيم. لا يريد إعناتهم، ولم يبعث إلا رحمة لهم وللعالمين. ومن هذه الأحاديث.

ما روته أم المؤمنين عائشة بنت الصديق رضي الله عنهما، قالت: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي من الليل في حجرته وجدار الحجرة قصير، فرأى الناس شخص النبي صلى الله عليه وسلم، فقام أناس يصلون بصلاته فأصبحوا فتحدثوا بذلك، فقام ليلة الثانية، فقام معه أناس يصلون بصلاته.... صنعوا ذلك ليلتين أو ثلاثة، حتى إذا كان بعد ذلك جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يخرج، فلما أصبح ذكر ذلك الناس، فقال إنى خشيت أن تكتب عليكم صلاة الليل)) (١) .

- وما رواه أبو هريرة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك. (وفى رواية: عند كل صلاة)) ) (٢)

- وروي أيضا عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((انتدب الله لمن خرج في سبيله لا يخرجه إلا إيمان بي وتصديق برسلي أن أرجعه بما نال من أجر أو غنيمة، أو أدخله الجنة. ولولا أن أشق على أمتي ما قعدت خلف سرية، ولوددت أني أقتل في سبيل الله، ثم أحيا ثم أقل، ثم أحيا ثم أقتل)) (٣) .

وما رواه ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: ((أعتم رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة بالعشاء حتى رقد الناس واستيقظوا ورقدوا واستيقظوا، فقام عمر بن الخطاب فقال: الصلاة (وفى رواية: الصلاة يا رسول الله! رقد النساء والصبيان) فخرج نبي الله صلى الله عليه وسلم كأني أنظر إليه الآن يقطر رأسه ماء واضعا يده على رأسه. فقال: لولا أن أشق على أمتى لأمرتهم أن يصلوها هكذا. (وفى رواية: لأمرتهم بهذه الصلاة هذه الساعة)) ) (٤) .

وفي خاتمة هذه المجموعة المختارة من الأحاديث التي تنفي المشقة وتنادي بالتيسير نسوق هذا الحديث الشريف، العظيم المرمى، البعيد المقصد وهو حديث أم المؤمنين عائشة الصديقة رضي الله تعالى عنها قالت: ((سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في بيتي هذا: اللهم من ولي من أمر أمتي شيئًا فشق عليهم، فاشقق عليه. ومن ولي من أمر أمتي شيئًا فرفق بهم فارفق به)) (٥) .

وبعد؛ لقد كان لمبدأ التيسير ورفع الحرج عن المسلمين، وهو المبدأ الذي نوهت به جميع النصوص التي أسلفنا من الكتاب والسنة وغيرها، عظيم الأثر في رسوخ الإسلام وفى سرعة انتشاره واستمراره، مما أثار الدهشة، وحير الأفهام، ودعا إلى التساؤل عن سر هذا الأمر؟! وأوقع العديد من الباحثين الأغراب في الشبه والتمحلات، فعزا من خفي عليه سر هذا الأمر وهو انتشار الإسلام بسرعة غير معهودة، وتمكنه تمكنًا غير مألوف، إلى حد السيف وإلى قوة الإرهاب التي أوقعتها الجيوش الإسلامية في قلوب الكافرين، وفي نفوس الأعداء ... ولقد خفي على هؤلاء أن الترغيب له مفعول واضح الإقناع والاستمالة، كفضل التيسير على النفوس لجعلها أميل وأحرص على هذا الدين، ولشيخ الإسلام محمد الطاهر بن عاشور رحمه الله تعالى بيان لطيف لحكمة التيسير والسماحة في الشريعة الإسلامية إذ قال: " إن حكمة السماحة في الشريعة أن الله جعل هذه الشريعة دين الفطرة. وأمور الفطرة راجعة إلى الجبلة فهي كائنة في النفوس، سهل عليها قبولها. ومن الفطرة النفور من الشدة والإعنات، قال تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا} [النساء: ٢٨] . وقد أراد الله تعالى أن تكون شريعة الإسلام شريعة عامة ودائمة فاقتضى ذلك أن يكون تنفيذها بين الأمة سهلاً، ولا يكون ذلك إلا إذا انتفى عنها الإعنات، فكانت بسماحتها أشد ملاءمة للنفوس، لأن فيها إراحة النفوس في حالي خويصتها ومجتمعها. وقد ظهر للسماحة أثر عظيم في انتشار الشريعة وطول دوامها، فعلم أن اليسر من الفطرة لأن في فطرة الناس حب الرفق " (٦) .


(١) انظر: البخاري: كتاب الأذان – باب إذا كان بين الإمام وبين القوم حائط أو سترة.
(٢) أخرجه البخاري، انظر كتاب التمني – باب ما يجوز من اللو.. كما أخرجه الترمذي في الطهارة
(٣) انظر: البخاري: كتاب الايمان – باب الجهاد من الإيمان.
(٤) حديث متفق عليه. انظر البخاري: كتاب مواقيت الصلاة – باب النوم قبل العشاء لمن غلب. وكتاب التمني – باب ما يجوز من اللو.
(٥) رواه مسلم انظر كتاب الإمارة حديث ١٩
(٦) انظر: مقاصد الشريعة الإسلامية ص ٦١ – ٦٢

<<  <  ج: ص:  >  >>