للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

لا نكاية في الشريعة الإسلامية

تبين من استقراء الشريعة أن السماحة واليسر من مقاصد الدين الإسلامي. وقد بلغت الأدلة من الكتاب والسنة مبلغ القطع على رفع الحرب عن هذه الأمة، فليس بدعًا بعد ذلك أن نجزم أن هذه الشريعة الإسلامية لا نكاية فيها بالأمة، بل هي شريعة عملية تسعى بنهجها المبني على التيسير والرفق إلى تحصيل مقاصدها، سواء كان ذلك في عموم الأمة أو في خويصة أفرادها.

وانتفاء النكاية بالأمة عن الشرع الإسلامي أمر ثابت من وجهين:

الأول: أنه لم يأت في الشرع الإسلامى تشريع يضاهي ما حكاه القرآن من تشريع بعض الأمم التي نالها التنكيل بسبب الظلم والانحراف عن أمر الله، قال تعالى: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا (١٦٠) وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ} [النساء: ١٦٠-١٦١]

الثاني: أنه إذا تقرر قيام الشريعة على مقصد السماحة واليسر ورفع الحرج تنتفي إمكانية النكاية، لأنها نقيض للسماحة واليسر ورفع الحرج، ولا يوجد النقيض إلا مع انتفاء نقيضه كما يقول المناطقة.

وبناء على ما أسلفنا، بالإمكان أن نورد هنا – دفعًا لما قد يخطر على البال – السؤال التالي: ماذا نقول في الزواجر والعقوبات والحدود؟ أليست نكاية بالمخالف وعقابًا له؟ فكيف ننفي عن الشرع النكاية مع وجود هذه الزواجر والعقوبات؟

الجواب هو: أن الإسلام إذا رخص ويسر وأباح فقد جاء على الأصل من سماحته ورفقه، ومن جاء على أصله فلا سؤال عليه.

وإذا شدد أو زجر، أو نسخ حكمًا من الإباحة إلى التحريم – كما كان الشأن في الخمر – فليس ذلك بقصد النكاية أبدًا، ولكن مراعاة للمصالح ودفعًا للمفاسد. وقد نطقت بهذا جملة من القواعد التي جرت مجرى الحكم لما اشتملت عليه من مصالح، من ذلك: " القتل أنفى للقتل " أو {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة: ١٧٩] .

ولا يعد الطبيب عندما يصف لمريض مر الدواء بقصد علاج ما اعتل من جسمه، منكلاً بهذا المريض، وقديمًا عرفوا: أن الشفاء للمرض لا يحصل دون آلام.

فليست الزواجر ولا القصاص نكاية بل إصلاح وحماية، كما أنه ليس في بتر عضو أو تجرع مر الدواء نكاية؛ بل رحمة بالمريض ورعاية. وبناء على كون الزواجر والعقوبات والحدود في الشريعة ليست سوى إصلاح لحال الناس، فإنها تحدد بالمقدار الذي قرره الشارع دون زيادة أو نقصان، لأن الزيادة تؤذن بالنكاية ولا نكاية في الشرع، ولأن النقصان يؤذن باتهام الشريعة، أنها زادت على ما به الحاجة في الإصلاح، إلى ما هو أشبه بالتشفي والنكاية.

<<  <  ج: ص:  >  >>