للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ودليل الرخصة قوله صلى الله عليه وسلم: ((ومن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان)) (١) ولأن حق المكره يفوت رأسًا إذا أقدم على الأمر بالمعروف.

وحق الله تعالى باق غير فائت تداركه اعتقاد حرمة الترك (٢) ، ولهذا النوع أمثلة كثيرة (٣) .

وهذا القسم الرخصة فيه أكمل، لأن العزيمة في مقابلتها أكمل، فإن الحكم الأصلي، وهو الحرمة، ودليله قائمان، وأكملية الرخصة لأكملية العزيمة، وهذا كما قيل: " وبضدها تتبين الأشياء ".

حكم هذا النوع:

حكم هذا النوع من الرخصة أن الأخذ بالعزيمة أولى مطلقًا، لبقاء الدليل المحرم والحرمة، حتى لو تحمل ما أكره به وامتنع عما هو الرخصة وقتل كان شهيدًا، لكونه باذلاً نفسه لإقامة حق الله تعالى، وقد روي (٤) أن مسيلمة الكذاب أخذ رجلين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم – فقال لأحدهما: " ما تقول في محمد "؟ قال: " رسول الله " قال: " فما تقول في "؟ قال: " أنت أيضا " فخلاه، وقال لآخر: " ما تقول في محمد "؟ قال: " رسول الله " قال: " فما تقول في؟ " قال: " إنما أنا أصم " فأعاد عليه ثلاثًا، فأعاد جوابه، فقتله، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم – فقال: ((أما الأول فقد أخذ برخصة الله تعالى، وأما الثاني فقد صدع بالحق فهنيئًا له ")) (٥) .

النوع الثاني:

أما النوع الثاني من الرخصة فما استبيح فعله مع قيام السبب المحرم الموجب لحكمه إلا أن الحكم، وهو الحرمة، متراخ عن السبب إلى زمان زوال العذر، فقد اتصل بالسبب عذر مانع منعه أن يعمل عمله في الحال.

فهذا النوع أهون من الأول، لأنه من حيث إن سبب الحرمة قائم فهو من الرخص الحقيقية، ومن حيث أن حكم السبب، وهو الحرمة تراخى عنه كان غيره أحق، لأن كمال الرخصة مبني على كمال العزيمة المقابلة لها، فإذا كان الحكم الأصلي وهو العزيمة ثابتًا مع سببه؛ أي من غير تراخ كان في كونه عزيمةً أقوى مما إذا كان متراخيًا عن السبب، كالبيع بشرط الخيار مع البيع الثابت، فحكم البيع وهو الملك في المبيع للمشتري ثابت في الحال من غير تراخ بالبيع الثابت، متراخ عن السبب، وهو العقد، في البيع بشرط الخيار.


(١) أخرجه مسلم عن أبي سعيد الخدري – رضي الله تعالى عنه – في الإيمان، باب كون النهي عن المنكر من الإيمان، رقم ٤٩، وتمامه: (من رأى منكم منكرًا فليغيره بيد، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان) وأخرجه أيضا الترمذي في الفتن، باب ما جاء في تغيير المنكر باليد، رقم ٢١٧٣، وأبو داود في صلاة العيدين، باب الخطبة يوم العيد، رقم ١١٤٠، وفي الملاحم، باب الأمر والنهي، رقم ٤٣٤٠، والنسائي في الإيمان، باب تفاضل أهل الإيمان ٨ / ١١١، وابن ماجه في الفتن، باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، رقم ٤٠١٣.
(٢) تسهيل الوصول ص ٢٨٤ بزيادة إيضاح وتفصيل، وكشف الأسرار مع نور الأنوار ١ / ١١٨ – ١١٩.
(٣) انظر أصول السرخسي ١ / ١١٨، ١١٩.
(٤) أخرجه ابن أبي شيبة قال: حدثنا إسماعيل بن علية عن يونس عن الحسن، (أن عيونًا لمسيلمة أخذوا رجلين من المسلمين، فأتوه بهما، فقال لأحدهما: أتشهد أن محمدًا رسول الله؟ قال: " نعم " قال: "أتشهد أني رسول الله؟ " فأهوى إلى أذنيه، وقال: "إني أصم" فأعاد عليه، فقال مثله:، فأمر بقتله. وقال للآخر: "أتشهد أن محمدًا رسول الله؟ " قال: "نعم " قال: "أتشهد أني رسول الله؟ " قال: "نعم " فأرسله. فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: " هلكت "، فقال: " وما شأنك؟ " فأخبره بقصته وقصة صاحبه، فقال: " أما صاحبك فمضى على إيمانه، وأما أنت فأخذت بالرخصة".) وأخرجه عبد الرزاق في التفسير عن معمر، قال: "سمعت أن مسيلمة أخذ رجلين " فذكره بنحوه. وذكر الواقدي في المغازي أن اسم المقتول: حبيب بن زيد عم عباد بن تميم، واسم الآخر: عبد الله بن وهب الأسلمي. قال: وكان فسقًا. وذكروا أنه قطعه عضوًا عضوًا وأحرقه بالنار. كذا في الكافي الشافي في تخريج أحاديث الكشاف للحافظ ابن حجر العسقلاني، مع الكشاف ٢ / ٦٣٧ تحت تفسير آية: {مَن كَفَرَ بِاللهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} [النحل: ١٠٦] .
(٥) تسهيل الوصول ص ٢٤٨ – ٢٤٩. وكشف الأسرار ١ / ٤٦٤، وأصول السرخسي ١ / ١١٨ - ١١٩.

<<  <  ج: ص:  >  >>