للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وأول مستشرق قام بمحاولة واسعة شاملة للتشكيك في الحديث النبوي كان المستشرق اليهودي (جولدتسيهر) الذي يعده المستشرقون أعمق العارفين بالحديث النبوي.

ويلخص (بفانموللر) عمل (جولدتسيهر) في هذا المجال فيقول: (لقد كان (جولدتسيهر) أعمق العارفين بعلم الحديث النبوي، وقد تناول في القسم الثاني من كتابه (دراسات محمدية) موضوع تطور الحديث تناولًا عميقًا، وراح ـ بما له من علم عميق, واطلاع يفوق كل وصف ـ يبحث التطور الداخلي والخارجي للحديث من كل النواحي.

وقد قادته المعايشة العميقة لمادة الحديث الهائلة إلى الشك في الحديث، ولم يعد يثق فيه مثلما كان (دوزي) لا يزال يفعل ذلك في كتابه (مقال في تاريخ الإسلام) وبالأحرى كان (جولدتسيهر) يعتبر القسم الأعظم من الحديث بمثابة نتيجة لتطور الإسلام الديني والتاريخي والاجتماعي في القرن الأول والثاني، فالحديث بالنسبة له لا يعد وثيقة لتاريخ الإسلام في عهده الأول: عهد طفولته، وإنما هو أثر من آثار الجهود التي ظهرت في المجتمع الإسلامي في عصور المراحل الناضجة لتطور الإسلام، ويقدم (جولدتسيهر) مادة هائلة من الشواهد لمسار التطور الذي قطعه الإسلام في تلك العصور التي تم فيها تشكيله من بين القوى المتنقصة والتباينات الهائلة حتى أصبح في صورته النسقية.. ويصور (جولدتسيهر) التطور التدريجي للحديث، ويبرهن بأمثلة كثيرة وقاطعة كيف كان الحديث انعكاسًا لروح العصر وكيف عملت على ذلك الأجيال المختلفة، وكيف راحت كل الأحزاب والاتجاهات في الإسلام تبحث لنفسها من خلال ذلك عن إثبات لشرعيتها بالاستناد إلى مؤسس الإسلام، وأجرت على لسانه الأقوال التي تعبر عن شعارتها) (١) .

وهكذا تم اختراع كم هائل من الأحاديث في العصر الأموي عندما اشتدت الخصومة بين الأمويين والعلماء الصالحين، ففي سبيل محاربة الطغيان والخروج عن الدين راح العلماء يخترعون الأحاديث التي تسعفهم في هذا الصدد، وفي الوقت نفسه راحت الحكومة الأموية تعمل في الاتجاه المضاد، وتضع أو تدعو إلى وضع أحاديث تسند وجهات نظرها، وقد استطاعت أن تجند بعض العلماء الذين ساعدوها في هذا المجال.. ولكن الأمر لم يقف عند حد وضع أحاديث تخدم أغراضًا سياسية، بل تعداه إلى النواحي الدينية في أمور العبادات التي لا تتفق مع ما يراه أهل المدينة، وقد استمر هذا الحال في وضع الأحاديث في القرن الثاني أيضًا (٢) .

هذا مجمل المزاعم التي روجها (جولدتسيهر) ليهدم بها الأصل الثاني للإسلام وهو السنة، ولسنا هنا في معرض الرد التفصيلي على هذه المزاعم، لأن ذلك يحتاج إلى بحث منفصل، وقد تكفل الرد على هذه الأباطيل كثير من أهل العلم، ومن أهم الكتب القيمة في هذا المجال كتاب (السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي) للدكتور مصطفي السباعي ـ رحمه الله تعالى ـ فمن أراد التفصيل فليرجع إليه.

ومن المستشرقين الذين تطاولوا على السنة النبوية، المستشرق (ماكدونالد) حيث جاء عنه قوله: (يجدر بنا الآن أن نتكلم على الآراء التي أسندها الحديث إلى محمد صلى الله عليه وسلم، على أننا إذا حاولنا أن نجد في الحديث ما نستطيع أن نقطع بصحة نسبه إليه من الوجهة التاريخية، فإن عملنا هذا يكون لاغنى فيه على الإطلاق. فمن الواضح أن هناك أحاديث كثيرة لا يمكن أن تكون قد صدرت عنه. كما أننا لن نستطيع أن نعرف أبدًا الأحاديث التي صدرت عنه حقًّا) ثم يستشهد بأقوال (جولدتسيهر) السابقة في الخلط والتشكيك (٣) . وقد أورد (ماكدونالد) كثيرًا من الشبهات حول الحديث النبوي.

ثم يختم (ماكدونالد) كلامه عن الأحاديث النبوية بقوله: (ونستخلص مما تقدم أنه لا شك في أن الأحاديث في ذاتها لا تعتبر أساسًا يمكننا أن نبني عليه الحقائق التاريخية) (٤) .

كما تهجَّمَ على السنة النبوية بقصد تشويهها والتشكيك فيها عدد من أعداء الإسلام من المستشرقين والمبشرين والصهيونيين.

وخلاصة القول في الاتهامات التي وجهت إلى السنة يمكن إجمالها فيما يأتي:

(أ) الادعاء بأن هناك أحاديث كثيرة لا يمكن أن تكون قد صدرت عن النبى صلى الله عليه وسلم.

(ب) لا يوجد حديث يقطع بصحة نسبته إلى النبى صلى الله عليه وسلم.

(ج) الادعاء بأن الفرق الإسلامية عندما اختلفت في الآراء أخذ كل منها يضع لنفسه الأحاديث التي يؤيد بها رأيه.

(د) الأحاديث النبوية ليست إلا سجلًا للجدل الديني في القرون الأولى، الأمر الذي يجعل لها من هذه الزاوية قيمة تاريخية على الرغم من أن هذا السجل مضطرب كثير الأغلاط التاريخية، مليء بالمعلومات المضللة التي لم تؤخذ من مصادرها الأولى.


(١) الاستشراق والخلفية الفكرية للصراع الحضاري: ص ١٠٢
(٢) د. مصطفي السباعي: السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي: ص ١٩٠، ١٩١، بيروت سنة ١٩٧٨ م
(٣) دائرة المعارف الإسلامية: ٤/ ٢٥٥، طبعة دار الشعب، القاهرة
(٤) دائرة المعارف الإسلامية: ٤/ ٢٥٦ ـ ٢٥٧، طبعة دار الشعب، القاهرة

<<  <  ج: ص:  >  >>