للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ونقول: إن بلس أساء فهم القرآن الكريم ولم يتذوقه لغته العربية شأنه في ذلك شأن كل إخوانه ممن سبقت الإشارة إلى جهلهم بالإسلام واللغة العربية في الفقرة السابقة، فلم يعرف بلس أن هذا الخطاب من باب الكناية في علم البلاغة، فليس المقصود أنها أخت هارون عليه السلام في النسب والسن، وإنما أخته في الدين والخلق والعفة، فكما أن هارون عليه السلام لا يقع منه الفحش فكذلك مريم عليها السلام لا يقع منها ذلك، ومن ذلك قولنا وقول السابقين: يا أخا العرب، يا أخا اليهود، ونحو ذلك لمن يتخلق بأخلاقهم ولو لم يكن من بني جلدتهم، ولا يمت لهم بصلة، فليس المراد من: يا أخت هارون، أنها أخته من أبيه وأمه، وإنما هي أخته وشبيهته في التقوى والطهارة، والأمر كذلك فيما جاء عنها في سورة التحريم: {وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا} (١) .

وهي ليست ابنته نسبًا إنما هي ابنته في الدين والتقوى ورعاية الله عزَّ وجلّ وبركته واصطفائه (٢) . وقد يكون عمران هذا ليس أبا موسى وهارون ولكنه عمران بن ماثال رجل من بني إسرائيل من ولد سليمان بن داود عليهما السلام (٣) . وسواء كان المراد هذا أو ذاك فمريم ليست ابنة أو اختا لأي منهما على الحقيقة، ولكن كما عرفنا على المجاز، قال ابن عطية: واختلف المفسرون في معنى قوله عزَّ وجلّ: {يَا أُخْتَ هَارُونَ} .

فقالت فرقة: كان لها أخ اسمه هارون لأن هذا الاسم كان كثيرًا في بني إسرائيل تبركًا باسم هارون أخى موسى عليهما السلام. وروى عن المغيرة بن شعبة ((أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أرسله إلى نجران في أمر من الأمور، فقالوا: إن صاحبك يزعم أن مريم هي اخت هارون (٤) وبينهما في المدة ستمائة سنة، قال المغيرة: فلم أدر ما أقول، فلما قدمت على رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ذكرت ذلك له، فقال: ألم يعلموا أنهم كانوا يسمون باسم الأنبياء والصالحين)) (٥) . وفي هذا إشارة إلى أن الأخوة على الحقيقة وأن مريم كان لها أخ يسمى هارون تبركا باسم هارون أخي موسى عليهما السلام. قال القاضي أبو محمد رحمه الله: فالمعنى أنه اسم وافق اسما، وقال السدي وغيره: بل نسبوها إلى هارون أخي موسى لأنها كانت من نسله، وهو كما تقول لرجل من قبيلة: يا أخا فلانة، ومنه قول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: ((إن أخا صداء أذن، ومن أذَّن فهو يقيم)) (٦) . وقال كعب الأحبار بحضرة عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها: ليست بأخت هارون أخي موسى، فقالت عائشة: كذبت، فقال لها يا أم المؤمنين: إن كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال فهو أصدق وأخبر وإلاَّ فإني أجد بينهما من المدة ستمائة سنة، قال: فسكتت (٧) . وقال قتادة: كان في ذلك الزمن في بني إسرائيل رجل عابد منقطع إلى الله عزَّ وجلّ يسمى هارون فنسبوها إلى أخوته من حيث كانت على طريقته، قيل: إذ كانت موقوفة على خدمة البيع، أي يا هذه المرأة الصالحة، ما كنت أهلًا لما أتيت به، وقالت فرقة: بل كان في ذلك الزمن فاجر اسمه هارون فنسبوها إليه على جهة التعيير والتوبيخ، ذكره الطبري، ولم يسم قائله، والمعنى: ما كان أبوك ولا أمك أهلًا لهذه الفعلة فكيف جئت بها أنت؟ (٨) .


(١) سورة التحريم: الآية ١٢
(٢) انظر: رد مفتريات على الإسلام: ص ١٦٤
(٣) انظر: تفسير ابن عطية: ٢/٨٣
(٤) وهذا يؤكد أن الادعاء قديم يردده المعاصرون
(٥) أخرجه ابن أبي شيبة وأحمد وعبد بن حميد ومسلم والترمذي والنسائي وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن حبان والطبراني وابن مردويه والبيهقي في الدلائل (الدر المنثور)
(٦) أخرجه الترمذي في الصلاة وابن ماجة في الآذان وأحمد في مسنده: ٤/١٦٩
(٧) أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن سيرين (الدر المنثور)
(٨) انظر فيما سبق: تفسير ابن عطية: ٩/٤٥٩ـ٤٦١

<<  <  ج: ص:  >  >>