للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

إذن فليس التشابه كما يزعمون اقتباسًا قام به محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولكنه تنزيل رب العالمين الذي أنزل هذا وذاك، ويبقى للقرآن بعد ذلك التشابه التفرد المطلق والعجيب والمختلف عن الكتب السابقة في كثير من الأمور ولنأخذ لذلك بعض الأمثلة التي تقطع باستقلالية القرآن عما سواه وبطلان دعوى الاقتباس:

١ ـ في قضية التوحيد: يعرض القرآن الكريم العقيدة الغيبية الخاصة بطريقة أكثر مطابقة للعقل، وأكثر تدقيقًا، وفي اتجاه أكثر روحية، فالله واحد، ومخالف للحوادث، وهو رب العالمين: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (١) اللَّهُ الصَّمَدُ (٢) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (٣) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} على حين نجد هذه القضية في الكتب السابقة يشوبها التشبيه والقومية، ثم اخترعت المسيحية من جانبها للإله ذاتًا إنسانية في الأقانيم الإلهية، وبهذا نشأت عقيدة جوهرها "الرب الحي بجسد إنسان" وتولد عن هذه العقيدة التفسير المسيحي الذي أنشأ عقيدة دينية ثالوثية قائمة على الثالوث الأقدس، وقد أشار الأستاذ العقاد أيضًا إلى هذه القضية وبيان التفاوت فيها بين القرآن وغيره ليخلص من ذلك إلى إبطال القول بالنقل أو الاقتباس، يقول: "جاء الإسلام بالدعوة إلى إله منزه عن لوثة الشرك منزه عن جهالة العصبية وسلالة النسب، منزه عن التشبيه الذي تسرب من بقايا الوثنية إلى الأديان الكتابية.. وللباحث في مقارنات الأديان أن يقول ما يشاء عن هذا الإله الواحد رب العالمين، ورب المشرقين ورب المغربين إلا أن يقول إنه نسخة مستمدة من عقائد عرب الجاهلية أو عقائد الفرق الكتابية التي خالطت عقائد الجاهليين على النحو الذي وصفه جورج سيل في مقدمته لترجمة القرآن الكريم، فإن العقيدة الإلهية التي تستمد من تراث الجاهليين لن تكون لها صبغة أغلب من صبغة العصبية، ولا مفخرة أظهر من مفاخر الأحساب، ولن تخلو من لوثة الشرك ولا من عقابيل العبادات التي امتلأت بالخبائث، وحلت فيها الرقى والتعاويذ محل الشعائر والصلوات، ومعجزة المعجزات أن الإسلام لم يكن كذلك بل كان نقيد ذلك في صراحة حامسة حازمة لا تأذن بالهوادة ولا بالمساومة ... " (١) .

٢ ـ قضايا الآخرة: من قيامة وبعث وحشر وحساب وجنة ونار إلى غير ذلك من المشاهد، لم تلق الكتب العبرية عليها إلا شعاعًا خافتًا، ولكن القرآن الكريم يبرز هذا المجال الأخروي إبراز مؤثرًا، يقص رواية الخلود الأخروي بنبرة خاشعة رهيبة في أسلوب فاق الذروة في بلاغته، وقد ثبت في أنحائه صورًا ومشاهد تسكب الخشية في قلوب العباد مما لا يمكن معه لإنسان حتى في هذه الأيام أن يصدف عن هذه المشاهد الهائلة (٢) وهي مشاهد لا تحصى ولا تعد في القرآن الكريم حيث لا تكاد تخلو سورة من القرآن عن شيء منها إلا نادرًا.


(١) حقائق الإسلام: ص ٥٣
(٢) الظاهرة القرآنية: ص ٢٤٤

<<  <  ج: ص:  >  >>