للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وهكذا يقدم لنا الدكتور دراز الأسباب والأدلة التي جعلت من هذا التنجيم في نزول القرآن مع هذا التأليف والانسجام بين ما نزل أولًا وما نزل آخرًا، وما هو مكي وما هو مدني، وما هو في القصص وما هو في الأحكام، وما هو في السلم وما هو في الحرب، وما هو في الأخلاق والشؤون الاجتماعية وما هو في المعاملات والشؤون المالية، نسيجًا مختلفًا عن تأليف البشر ونظامًا لا ترقى إليه عبقرية ولا تطيقه أية قوة غير إلهية، ومن هذا يثبت أن القرآن ليس بشريًّا وإنما هو وحي الله العظيم.

وفي توضيح هذا المعنى أيضا يقول الأستاذ مالك بن نبي: "الوحي ظاهرة منجمة فهو في أساسه متفاصل شأن مجموعة عددية، أي أنه متكون من وحدات متتالية هي الآيات، وهذه الخاصة توحي إلينا بفكرة الوحدة الكمية، فكل وحي مستقل يضم وحدة جديدة إلى المجموعة القرآنية، بيد أن هذه الوحدة القرآنية ليست ثابتة، فهي لا تماثل الوحدة التي تزيد في مجموعة الأعداد حين يضاف واحد إلى ثلاثة أو أربعة أو خمسة ليؤيد إلى الوحدة العددية التالية، فإن للوحي مقياسًا متغيرًا هو كميته أو سعته، تلك السعة التي تتراوح بين حد أدنى هو الآية وحد أقصى هو السورة"، ثم يمضي في تفسير هذا المعنى ببيان صلته بالنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لينتهي من ذلك إلى نفي أي تأثير بشري في هذا الوحي، وتأكيد خلوصيته وتمام نسبته إلى الوحي الإلهي فيقول: "وتأمل هذه الوحدة يتيح لنا بعض الملاحظات المفيدة عن العلاقة بين الذات المحمدية والظاهرة القرآنية، إذ هي تتناسب في الزمن مع الحالة الخاصة التي سميناها (حالة التلقي) عند النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولقد رأينا ـ بصفة خاصة ـ أن إرادته تنعدم مؤقتًا؛ إذ هو عاجز في تلك اللحظات عن أن يغطي وجهه المحتقن المتفصد عرقًا، فعن هذه الذات العاجزة فجأة ـ وللحظات ـ تصدر وحدة التنزيل، على هذه الذات الغارقة في حالة لا شعورية تقريبًا يطبع الحي فجأة فقراته الوجيزة.. ههذ الوحدة تؤدي بالضرورة فكرة واحدة، وأحيانًا مجموعة من الفكر المنتظمة في أسلوب منطقي يمكننا ملاحظته في آيات القرآن، ودراسة هذه الفكر في ذاتها وفي علاقاتها ببقية حلقات السلسلة تكشف عن قدرة خالقه ومنظمة لا يمكن أن تنطوي عليها الذات المحمدية في تلك الظروف النفسية الخاصة بحالة تلقيها الوحي بل حتى في ظروفها الطبيعية ... " (١) .


(١) الظاهرة القرآنية باختصار: ص ٢٢٣

<<  <  ج: ص:  >  >>