للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

(ج) الوحدة الكمية في القرآن الكريم؛ وهذا دليل آخر من أدلة الوحي، وذلك أنه على الرغم من نزول القرآن منجمًا كما أشرنا من قبل، إلا أن بين آياته كلها وآيات السورة الواحدة، والسورة مع السور الأخرى ترابطًا وانسجامًا لا يستطاع لعبقرية بشرية، ويعرض علينا الدكتور دراز نماذج متعددة من هذه الوحدة سواء منها القطعة الواحدة (الجملة) من القرآن مع غيرها منه، أو في السورة الواحدة مع آياتها أو في السور جميعها مع بعضها البعض، أو في القرآن كله من أوله إلى آخره، ونكتفي هنا بهذه الفقرة من كلامه في هذا المعنى يقول رحمه الله: "فإن كنت قد أعجبك من القرآن نظام تأليفه البياني في القطعة منه حيث الموضوع واحد بطبيعته، فهلم إلى النظر في السورة منه حيث الموضوعات شتى والظروف متفاوتة لترى من هذا النظام ما هو أدخل في الإعجاب والإعجاز، ألست تعلم أن ما امتاز به أسلوب القرآن من اجتناب سبل الإطالة والتزام جانب الإيجاز ـ بقدر ما يتسع له جمال اللغة قد جعله هو أكثر الكلام افتتانًا، نعني أكثره تناولًا لشؤون القول وأسرعه تنقلًا بينها من وصف إلى قصص إلى تشريع إلى جدل إلى ضروب شتى، بل جعل الفن الواحد منه يتشعب إلى فنون، والشأن الواحد فيه تنطوي تحته شؤون وشؤون، أو لست تعلم أن القرآن ـ في جل أمره ـ ما كان ينزل بهذه المعاني المختلفة جملة واحدة، بل كان يتنزل بها آحاد مفرقة على حسب الوقائع والدواعي المتجددة، وأن هذا الانفصال الزماني بينها والاختلاف الذاتي بين دواعيها كان بطبيعته مستتبعًا لانفصال الحديث عنها على ضرب من الاستقلال والاستئناف لا يدع بينها منزعًا للتواصل والترابط، ألم يكن هذان السببان قوتين متظاهرتين على تفكيك وحدة الكلام، وتقطيع أوصاله، إذا أريد نظم طائفة من تلك الأحاديث في سلك واحد تحت اسم سورة واحدة. وسبب ثالث كان أجدر أن يزيد نظم السورة تفكيكًا، ووحدتها تمزيقًا، ذلك هو الطريقة التي اتبعت في ضم نجوم القرآن بعضها إلى بعض، وفي تأليف وحدات السور من تلك النجوم، وإنها لطريقة طريفة سنريك فيها العجيبة الثالثة الكبرى التي خرجت بهذا التأليف القرآني عن طبيعة التأليف الإنساني ... " (١) .


(١) النبأ العظيم: ص ١٤٥، ١٤٦

<<  <  ج: ص:  >  >>