للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وقد وضح ذلك الدليل بشيء من التفصيل الأستاذ مالك بن نبي في حديثه عن الخصائص الظاهرية للوحي وتطبيقها على القرآن ومن هذه الخصائص التنجيم فقال: "يضم الوحي في مجموعه ثلاثة وعشرين عامًا، فهو لا يكون ظاهرة مؤقتة أو خاطفة، ولقد نزلت الآيات منجمة بين كل وحي وما يليه مدة انقطاع تتفاوت طولًا وقصرًا، ولقد ينقطع الوحي مدة أطول مما ينتظره النبي وبخاصة عندما يلزمه أن يتخذ قرارًا يعتقد أن من الواجب ألا يصدره قبل تصديق السماء عليه " وأوضح مثال على ذلك موقفه إزاء قرار الهجرة، فلقد غادر أصحابه مكة فارين بدينهم بينما كان يعقد أنه لا بد فيما يتعلق بشخصه أن ينتظر أمرا صريحًا من الوحي، ومثال آخر: عندما كان الأمر بالنسبة له يحتم اتخاذ قرار في موقف محير مريب، بينما ينتظر ـ على أحر من الجمر ـ وحي الله الحاسم، ولقد تعرض النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لمثل هذه الحيرة في حادثة الإفك (١) التي لم يفصل فيها الوحي إلا بعد شهر من الانتظار على مضض (٢) .

وهكذا كان ينزل القرآن الكريم وفق المشيئة الإلهية ولتحقيق الغايات التربوية في المناسبات والنوازل بالرسول والأمة في مدى ثلاثة وعشرين عاما يعزز الجهود ويثبت الأفئدة ويواسي المصابين، ويبشر الصابرين، ويشد من أزر المجاهدين، يقول مالك بن نبي: "وكلما كان الإسلام ينتشر في رُبا الحجاز ونجد كان الوحي يتنزل بالدرس الضروري في المثابرة والصبر والإقدام والإخلاص يلقنه أولئك الأبطال الأسطوريين، أبطال الملحمة الخارقة.. ولو أن القرآن كان قد نزل جملة واحدة لتحول سريعًا إلى كلمة مقدسة خامدة، وإلى فكرة ميتة، وإلى مجرد وثيقة دينية لا مصدرًا يبعث الحياة في حضارة وليدة، فالحركة التاريخية والاجتماعية والروحية التي نهض بأعبائها الإسلام لا سر لها إلا في هذا التنجيم" (٣) .

وفي هذا كله يقول الله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآَنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا} (٤) .


(١) انظر الآيات: ١١ ـ ٢٦ من سورة النور؛ وانظر: لباب النقول في أسباب النزول، وتفسير ابن عطية: ١/ ٤٤٩ ـ ٤٧٥، وعون الباري لحل أدلة صحيح البخاري: ٤/ ٢٢٠ ـ ٢٣٧ وغيرها
(٢) الظاهرة القرآنية: ص ٢٢٠، والنبأ العظيم: ص ٢٤
(٣) الظاهرة القرآنية: ص ٢٢٢
(٤) سورة الفرقان: الآيتان ٣٢، ٣٣

<<  <  ج: ص:  >  >>