للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

والحاصل أن الأخذ بالأسباب في تحصيل المنافع ودفع المضار في الدنيا، أمر مأمور به شرعًا لا ينافي التوكل على الله بحال، لأن المكلف يتعاطى السبب امتثالًا لأمر ربه مع علمه ويقينه أنه لا يقع إلا ما يشاء الله وقوعه ولو شاء الله تخلف تأثير الأسباب عن مسبباتها لتخلف، ومن ذلك قصة إبراهيم عليه السلام ومحاولة حرقه بالنار وكيف تحولت إلى برد وسلام، فدل ذلك دلالة قاطعة على أن التأثير حقيقة إنما هو بمشيئة خالق السماوات والأرض، وأنه بسبب ما شاء من المسببات على ما شاء من الأسباب، وأنه لا تأثير لشيء من ذلك إلا بمشيئته جل وعلا.

وفي القرآن الكريم نصوص كثيرة تدل على أن تعاطي الأسباب لا ينافي التوكل على الله تعالى، كما في قوله تعالى عن يعقوب: {يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ} [يوسف: ٦٧] .

حيث أمر بنيه بتعاطي السبب خوفًا عليهم من أذى الناس لهم، ومع هذا التسبب قال: {وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ} [يوسف: ٦٧] .

فقد جمع بين التسبب {لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ} [يوسف: ٦٧] وبين التوكل على الله {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ} . [يوسف: ٦٧] .

وفي قصة مريم عليها السلام (أمرها بهز الجذع مع أنه تعالى قادر على إسقاط الرطب إليها، لكنه أمرها بالتسبب في إسقاطه بهز الجذع) (١) .

وقد حسم الطبري مسألة التوكل والتداوي بقوله: (والحق أن من وثق بالله وأيقن أن قضاءه عليه ماض، لم يقدح في توكله تعاطيه الأسباب اتباعًا لسنته وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد ظاهر في الحرب بين درعين، ولبس على رأسه المغفر، وأقعد الرماة على فم الشعب، وخندق حول المدينة، وأذن في الهجرة إلى الحبشة وإلى المدينة وهاجر هو، وتعاطى أسباب الأكل والشرب، وادخر لأهله قوتهم ولم ينتظر أن ينزل عليه من السماء، وهو كان أحق الخلق أن يحصل له ذلك، وقال الذي سأله: أعقل ناقتي أو أدعها؟ قال: اعقلها وتوكل، فأشار إلى أن الاحتزاز لا يدفع التوكل) (٢) .


(١) أضواء البيان، للشيخ الشنقيطي: ٤/٢٥٠ - ٢٥٣.
(٢) فتح الباري: ١٠/٢١٢.

<<  <  ج: ص:  >  >>